فهرست مضمون السور القرانية المصحف الالكتروني


فهرس مضمون السورالرئيسيةفهرس السورفهرس الصفحات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►/المصحف الإلكتروني www.e-quran.com.



الأحد، 17 أبريل 2022

من قصص القرآن إبراهيم عليه السلام تأملات محمد مبارك المز يودي



إبراهيم عليه السلام
المؤلف
محمد مبارك المزيودي 
روابط التحميل


  ---------------------------------

 من قصص القرآن إبراهيم تأملات محمد مبارك المز يودي

m
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد أخوتي الأعزاء
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) /الأعراف فهذا الكتاب يشتمل على لمحات من سيرة أبي الأنبياء خليل الرحمن : إبراهيم 5انتهجت فيه نهج كتاب الله في سرد أخباره عليه السلام، فلم ألجأ إلى مجّرد رواية حركته الآدمية، بل لجأت إلى مجموع الآيات القرآنية التي ذكرت قسماً من أحواله عليه السلام ، وإلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ينساق في إطار الدلالة القرآنية، وكانت الغاية من ذلك:
1- دراسة النص القرآني، وإظهار ما فيه من دلالات وتركيبات تشير إلى روعة البيان في القرآن.
2- الوقوف على المنهجية الفكرية في الدعوة إلى الله من خلال النظر إلى منهجية خليل الرحمن في الدعوة إلى الله.
3- ربط الماضي بالحاضر من خلال النظر إلى أحوال إبراهيم عليه السلام، التي جعلها جل شأنه أساساً قامت عليه جميع الرسالات، وقدراً تدور في إطاره أحوال الأمم إلى يوم القيامة.
4- الوقوف على جوانب من سيرته الشريفة عليه السلام .
ومع ذلك كله فإنني أقر وأعترف بأني لم أعط النص القرآني كل ما يجب من نظر وتدبّر، لأن الأمر يحتاج إلى مساحة عقلية أكثر اتساعاً، فاكتفيت بالحدّ الذي يتناسب ومساحة الاحتمال لديّ.
اللهم هذا ما سخّرته يد قدرتك، ولا فضل لي فيه من الألف إلى الياء، لأن كل مجالات القدرة في يدك أنت، وحدك، فلا يملك منها الإنسان شيئاً إلا بإذنك
فتقبل مني، اللهم، هذا الجهد، وارحمني فأنت أرحم الراحمين.
الدعوة إلى الله ( 1 ) البقرة ٢٥٨
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي وبالعربية فيما ذكر ابن عطية: { أب رحيم }
قال السهيلي: وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره ( أب راحم ) [1]
هو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام
ولما كان عمر ( تارخ ) خمساً وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السلام وناحور وهاران، وولد لهاران ( لوط )، وعندهم أن إبراهيم هو الأوسط، وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها، وهي أرض الكلدانيين، يعنون أرض بابل[2]
وقد اخُتلف في اسم أبي ابراه[3]يم، وكان الباعث على هذا الاختلاف قوله سبحانه:
ﭧ ﭨﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭼالأنعام: ٧٤
مما قيل في تأويل ذلك:
إن اسم أبي إبراهيم ( تارخ ) فلما صدر مع النمرود قيّماً على خزانة آلهته، سماه ( آزر) . ولعل هذا هو الصحيح كما في لغة الفينيقيين ( آزر بعل ) أي سادن ( خادم ) الصنم بعل[4]
ولهذا الأمر جوانب أخرى، نؤجلها إلى حين الوقوف عند مجموعة آيات الأنعام، بإذن الله.
يذكر جل شأنه في هذه الآية المناظرة التي كانت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود، والذي كان ملكاً على بابل، واسمه، كما ورد في كتاب قصص الأنبياء لابن كثير : النمرود بن كنعان أو النمرود بن فالح ... وهما روايتان اختلفتا في أسماء الآباء والأجداد، ولكنها اتفقتا على اسمه هو.
{ ألم ترى } استفهام تقريري ، بمعنى: لقد رأيت . مثل
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)/ الفيل: 1
{ حاج إبراهيم في ربه }
( حاجّ ) على وزن ( فاعل )، وهي صيغة تفيد المشاركة، فكلُّ منهما : إبراهيم عليه السلام والنمرود ، كان بصدد ذكر الأدلة والبراهين التي تدعم معتقده وتنفي معتقد الآخر.
{ أن آتاه الله الملك }
لا ينال الإنسان الملك في الدنيا إلا إذا أراد الله تعالى له ذلك، مؤمناً كان أو كافراً.
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)/ آل عمران: ٢٦
قال له إبراهيم عليه السلام :
{ ربي الذي يحي وأميت }
أي هو الذي يعي الحياة للأحياء، ويسلبها منهم متى أراد . فرّد عليه النمرود قائلاً:
{ أنا أحي وأميت }
ونلاحظ في هذا القول ما يلي:
1- أن الرجل لم يقل مثل ما قال لإبراهيم عليه السلام عندما دعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد . فلو كان حاله كحالهم لردّ الحياة والموت إلى الأصنام التي كان القوم يعبدونها، فكان في نسبة الإحياء والإماتة إلى نفسه مؤشراً على أنه كان يرى نفسه إلهاً، حاله كحال فرعون الذي قال لشعبه ﮋ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﮊ
2- ولو أن النمرود كان منكراً لفكرة الربّ الذي يعبده إبراهيم عليه السلام ، لما قبل أن يجلس مجلس المناظرة، ولو كانت دعوة إبراهيم عليه السلام مجرّد كلمات يلقيها، لما وجد فيها النمرود ما يجعله يسلّم بفكرة إله إبراهيم . أي أن تسليم الرجل بوجود ربّ إبراهيم تحقّق من خلال معجزة عظيمة، لم تدع له مجالاً للإنكار، وهي معجزة خروجه من النار العظيمة سليماً معافى، لم يمسّه أدنى أذى، فأدرك أن ذلك لا يتحقّق إلا من خلال وجود قوّة عظمى قادرة، حقّقت النجاة لإبراهيم من النار.
فأدرك النمرود أن يساوي نفسه بإله إبراهيم في الإحياء والإماتة، فقال( أنا أُحي وَأُمِيتُ ) يعني بذلك انه إذا أُتي بالرجلين قد تحتّم قتلهما، فأمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر.
ولم يكن في ذلك حجّة للنمرود، لأنَّ الإحياء والإماتة اللذين أسندهما إبراهيم إلى رب العالمين ليسا كما ظنّ النمرود، لعنه الله. فالإحياء لدى الله تعالى هو الإيجاد من عدم، والإماتة هي استرجاع الروح من ذلك الجسد، ليغدو جثة لا حياة فيها.
وأما ما فعله النمرود فلم يكن إحياءً لذات ميِّتة، ولم يكن قتله للرجل سلباً للحياة، إنما قدرة على التصرّف في أسباب الموت والبقاء على قيد الحياة، تلك الأسباب التي يسّر جل شأنه للإنسان أن يتحكم فيها، تحقيقاً لمعنى الابتلاء، قال تعالى:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)/الملك: ٢
ومع ذلك، فإننا لا نجد إبراهيم عليه السلام يقف أمام كلام النمرود، معترضاً على ما فهمه من معنى الموت والحياة، فقد تغاضى عن ذلك، ليكون في ذلك سبباً لالتزام النمرود الاستسلام للحجّة، ومن ثمّ ليطرح عليه الصفة التي يجد سبيلاً للتحايل من أجل الاتصاف بها، وهو قوله عليه السلام .
( قال إبراهيم عليه السلام فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب )
ربي يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت أنت ربَّاً فأت بها من المغرب. فأدرك النمرود أنه لا قدرة له على ذلك، وأراد أن يّرد على حجة إبراهيم عليه السلام ، فلم يجد ما يقول، فكان حاله كما قال رب العالمين.
ﮋ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ
أي تحّير ودُهش.
وكان من المفروض أن يستسلم النمرود لحجّة إبراهيم عليه السلام ، ولكنه لم يفعل، وأصّر على كفره، فاستحق أن يذكره جل شأنه بقوله ( الذي كفر ) .
ﮋ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮊ
تصريح منه جل شأنه بأن الهداية تتحقق لمن لم يكن الظلم ديدنه في الحياة . وأما الذين التزموا الظلم والعدوان، فلا هداية لهم، ويوثّق ذلك قوله جل شأنه:
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) /الليل1
الدعوة إلى الله(2 )الأنعام : الآيات 74-83
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)/   الأنعام: ٧٤ – ٨٣
ﮋ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﮊ
لا خلاف بين النسَّابين أن اسم أبيه ( تارخ ) [5]
ولكن القرآن الكريم ينص على أن اسم أبيه هو ( آزر ).
وإن لم نجد مساراً يوفق بين الخبرين، فليس لنا إلا اعتماد ما في كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. مع ملاحظة أن الأب في القرآن الكريم يأتي للدلالة على الأب المباشر أو على الأجداد، أو على الأعمام، ومن ذلك قول يعقوب لأولاده :
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) البقرة
ولم يكن إبراهيم عليه السلام ليعقوب إلا جدّاً، ولم يكن إسماعيل عليه السلام إلا عّماًَ.
وفي الحديث المذكور في الصفحات القليلة الماضية رأينا قول إبراهيم 5 لربه يوم القيامة
( فأي خزي أُخزى من أبي الأبعد )، ولا يوصف الأب المباشر بالأبعد، بل هو الأقرب، أما الأبعد فقد يكون الجد، وقد يكون العمّ.
ﮋ ﭗ ﭘ ﭙﭚﮊ
استفهام تعجّب واستنكار، يتعجب من اتخاذهم تلك التماثيل آلهة يعبدونها، وهي التي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً.
ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﮊ
الضال: هو الذي لا يعرف طريقاً يوصله إلى الأمن والأمان، وهؤلاء اتخذوا الأصنام آلهةً، يرجون منها الخير والمنفعة، فكان في ذلك ضلال، لن يوصلهم إلى ما يأملون .
ﮋ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﮊ
( كذلك ) إشارة إلى النتيجة التي وصل إليها إبراهيم عليه السلام ، والتي كانت من خلال نظره الرشيد في الكون والحياة.
وقد اختلف المفسرون في رؤية إبراهيم عليه السلام لملكوت السموات والأرض، فذكروا أقولاً عجيبة، ليس لها أساس تعتمد عليه، ومن ذلك قولهم : أنه نظر في ملكوت السموات والأرض حتى وصل بنظره إلى عرش الرحمن[6]
ولكن هذه الآيات لا تذكر حال إبراهيم عليه السلام بعد الوحي، إنما تذكر حاله قبل ذلك . فمن خلال استقراء أحوال الأنبياء نجد أن الله تعالى يتعّهدهم بالرعاية ليسلموا من أوضار الشرك والجهالة، والسبيل إلى ذلك هو تصرّفه جل شأنه بعقول ( قلوب ) عباده، قال صلى الله عليه وسلم :
( ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أٌقامه، وإن شاء أزاغه ) وكان رسول الله صلى عليه وسلم يقول ( يا مثّبت القلوب ثبّت قلوبنا على دينك ) رواه ابن ماجه.
فالمقصود بملكوت السموات والأرض ما يشهده الإنسان من خلقهما، .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)  /عمران: ١٩٠ - ١٩١
فكان الأنبياء وعباد الله الأتقياء النظر في ملكوت السموات والأرض مما هو متيسّر للإدراك البشري، وقد ثبت في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى غار حراء في شهر رمضان وحيداً، ليس له رفيق إلا النظر في خلق السموات والأرض.
ومن ذلك ما كان مع إبراهيم عليه السلام فإنه لم يكن في حاجة إلى أن تفرج له السموات ليرى ما فيها، وليصل نظره إلى عرش الرحمن، فإنما كان يكفيه أن ينظر فيما يسّره جل شأنه للإدراك البشري من خلق السموات والأرض، ويدعم ذلك ما ذكر من آيات بعد تلك الآية، حيث ذُكر الكوكب والقمر والشمس ...
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﮊ
( جنّ عليه الليل ) ستره بظلمته.
( رأى كوكباً) من بين تلك الكواكب المشهورة في السماء .
( فلما أفل ) أي غاب .
( قال لا أحب الآفلين ) أي الذين يغيبون، فكان في أفول الكوكب دليلاً لإبراهيم على أنه ليس ربّاً، وفي ذلك إشارة إلى أنه يحمل في عقله فكراً راشداً، يقول له : إن الله الحق هو الذي لا يقصر عن شيء مهما كان، ولا يأخذ راحة من الإطلال على عباده، فهو دائماً مشرف عليهم، يرعاهم ويدّبر شؤونهم.
ﮋ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ
{ بزغ القمر }: إذا ابتدأ في الطلوع .
ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ
قال المفسرون في تأويل ذلك: لئن لم يثبتني على الهداية .[7] إرادة منهم للقول بأنه عليه السلام كان مهدياً حتى قبل أن يُوحى إليه، ولكنهم بذلك يخرجون عن المعنى الذي يؤكده النصّ، ولكي يَسْلَموا من هذه الوحدة، أضافوا للموقف دلالات لا يقطع بصحتها دليل، ومن ذلك :
إنما قال ( هذا ربي ) لتقرير الحجة على قومه، فأظهر موافقتهم .
قال النحّاس : ومن أحسن ما قيل في هذا ما صحّ عن ابن عباس أنه قال إن إبراهيم 5 عرف الله عز وجل بقلبه، واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له رباً خالقاً
ولو كان قول إبراهيم 5 المذكور من باب استدراج القوم إلى ما يريد، لما احتاج إلى أن يلقيها مؤكَّدة بثلاث مؤكّدات: لام القسم في قوله ( لئن ) وفي قوله ( لأكوننّ) ونون التوكيد الثقيلة في الفعل ( أكوننّ ) فإذا كان هناك من ترجمة نفسية للاستعانة بهذه المؤكدات لكانت قولنا : إنه كان يعاني من شدّة وطأة عدم معرفته بربَّه المستحق لأن يعبده، وأن يخضع له:
ﮋ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ
تأكيده لضلالة إن لم يهده ربّه إليه، هو في ذات الوقت تأكيد لأن للكون ربّاً، ولكن كان يريد الإطلاع على أبواب وفصول المعرفة بهذا الرب، فكان أن قال في الكوكب، والقمر، على التوالي
( هذا ربي ) وعندما ظهر له أنه لا يليق بهما أو بأحدهما أن يكون رباً، للقصور الموجود في كلٍّ منهما، جزم بأنه إن لم يهده ربّ هذا الوجود إليه، فسيكون حاله كحال هؤلاء القوم، الذين ضلّوا الطريق إلى الله تعالى .
ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮊ
ولأنه،عليه السلام كان خاضعاً للطبيعة البشرية، رأي كبر حجم الشمس دليلاً على عظم الذات، فقال ( هذا ربي )، ولكنه، عندما رآها تغيب مثل غياب الكوكب والقمر، أدرك أنها لا تملك الصفة الأساس للربوبية، وهي الحضور الدائم في الكون والموجودات، فقال، موجِّهاً الخطاب إلى قومه:
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮊ
إشارة إلى أن القوم كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، إضافة إلى عبادة الأصنام، فكان من
( رشده ) عليه السلام أن نظر بعين العقل إلى كل تلك المعبودات، فرأى الأصنام لا تأكل ولا تشرب ولا تتكلم، فأنكر أن تكون هذه الأشياء العاجزة في ذاتها قادرة على تدبير أمور الخلق والموجودات، ثم عّرج على السموات، فنظر إلى الكوكب والقمر والشمس، فرأى في غيابها عن الوجود ساعاتٍ طويلة قصوراً فيها، فأنكر أن يكون أحدها رباً له، لأن الربّ في اعتقاده هو الذي لا يغيب أبداً، والذي يتجلّى حضوره في استقامة وجود كل المخلوقات. فكان من واجب صفاته أن يكون حاضراً أبداً.
فكان أن تبّرأ من كل ما يعبده القوم، معلناً إيمانه بأن الربّ الحقيقي هو غير تلك التماثيل وتلك الكواكب :
ﮋ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﮊ
إن الإنسان إذا أراد أنّ يقصد ذاتاً، لابد له من أن يقبل عليه بوجهه، فكان تعبير إبراهيم عليه السلام ( وّجهت وجهي ) كناية عن الإقبال على الذي فطر السموات والأرض. الانصراف عما سواه.
ﮋ ﮩ ﮪ ﮫ ﮊ خلقهن .
ﮋ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﮊ
نفى عن نفسه صفة الشرك بالله، وأمرّ ما يقابلها وهو قوه ( حنيفاً ) وهي من خلال السياق قد تعني: مُوحِّداً. وقد اخْتُلِفَ في تأويلها، وتفصيل ذلك في باب( صفات إبراهيم عليه السلام )
ﮋ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﮊ
انطوت هذه الآية على ثلاثة محاور:
1- ﮋ ﯔ ﯕﯖ ﮊ
الفعل ( حاجّ ) على وزن فَاْعلَ، وهي صيغة تفيد المشاركة، أي أنهم طلبوه للوقوف أمامهم، ومن ثمّ ليعرض حجّته أمام حجتهم، وقد وردت آيات أخرى في كتاب الله تعالى، تفصّل هذه الحاجة، حيث كانت الحجّة الدامغة دائماً في صف إبراهيم عليه السلام ،
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) /الأنعام: ٨٣
2- ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﮊ
تشير هذه الكلمات إلى عدّة دلالات:
أ- خرج الاستفهام عن معناه الأصلي، ليفيد معنى التعجّب من إقبال القوم على المحاجّة، في ظل اليقين الذي ألقى إليه، بعد هداية الله تعالى له.
ب_ في هذه الآية ذَكَر إبراهيم عليه السلام ربَّه باسمه ( الله )، في حين أنه في الآيات السابقة لم يذكره بغير كلمة (رب ) إشارة إلى أنّه قبل الوحي أدرك أنّ للكون ربّاً عظيماً قادراً، يتجلّى حضوره في كل تلك الموجودات، ولم يكن له في تلك الحالة أن يعرفه باسم (الله )، فكان في ذكره في هذه الآية مؤشراً على أن الخطاب الإلهي توفّر له، فعرف ربّه وعرف اسمه. ويدعم ذلك قوله إثر ذلك ( وقد هداني ).
3- بعض مفردات الهداية التي تلقّاها عليه السلام من ربه :
أ- ﮋ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ
ينفي عن نفسه الخوف من تلك الأصنام:
1- لأنه أدرك أنها لا تضر ولا تنفع .
2- ولأنه وصل إلى اليقين في معرفة الله تعالى، والعلم الأكيد بهذه الأصنام، والتي جعلها القوم شركاء لله في الإلوهية والربوبية ظلماً وعدواناً .
ب- ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﮊ
لم ينس عليه السلام وينفي خوفه من الأصنام، أن يذكر قدرة الله تعالى، التي تفعل ما تشاء، فذكر أنه لا يخاف من أصنامهم شيئاً، استناداً على ما يجده في قلبه من إيمان ويقين، ولكن عدم الخوف هذا ليس مستقلاً عن إرادة الله تعالى، فالذي قدّر له الهداية، قادر على أن يقدّر له من الحالات النفسية والعقلية والحياتية ما يجعله يخاف تلك الأصنام، مثلما هو حال القوم وكأنه 5 بذلك ينظر إلى قوله تعالى:
ﭧ ﭨ ﮋ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﮊالتكوير: ٢٩
ﮋ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮊالكهف: ٢٣ – ٢٤
ج- ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﮊ
ومن لوازم هذا الاتّساع أنه، سبحانه، الأول والآخر والظاهر والباطن، فلا يخرج عن نطاق قدرته وعلمه شيء في الأرض ولا في السماء. فالسموات والأرض ومن فيهن أمام ذات الله ذرة هباء في شعاع من أشعة الشمس.
د- ﮋ ﯯ ﯰ ﮊ
استفهام يحمل معنى التعّجب والتوبيخ، مبعثه انصراف القوم عن عبادة الله تعالى في ظل الشواهد الكونية على وحدته، وما يحفظونه في ذاكرتهم من أحوال الأنبياء السابقين ورسالاتهم.
وفي الدعوة إلى التذكر إشارة إلى أمرين:
1- تذكر الميثاق الأول الذي أخذه الله تعالى على بني آدم.
 
{{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)الأعراف: ١٧٢ – ١٧٣
إذ ورد في كتب التفسير أن الله تعالى مسح بيد قدرته على ظهر آدم عليه السلام، فنزلت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وأشهدهم على أنفسهم تلك الشهادة المذكورة في الآية. ولذلك كان في فطرة الإنسان الاحتياج إلى إله معبود، كاحتياجه إلى الطعام والشراب، ولم يرسل جل شأنه الرسل إلا لتعديل المسارات الخاطئة التي ينتهجها الناس، تلبية لفطرة الخضوع إلى إله يلجأ ون إليه كما يلجأ الولد إلى والده.
2 - قرب عهد القوم بأنبياء الله تعالى ورسله الذين أرسلوا في الأمم السابقة، أتاح لهم الاحتفاظ في ذاكرتهم بأحوال تلك الأمم، وبقدر من التعاليم التي أرسلوا بها ومفرداتها مثل: الشيطان، جهنّم الإله وغير ذلك مما لا يتسع المجال لتفصيله واستقصائه.
ﭧ ﭨ ﮋ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﮊ
استفهام إنكاري
ينكر إبراهيم أمام نفسه وأمام قومه أن يخاف تلك الأصنام التي قال فيها من قبل إنها لا تضرّ ولا تنفع.مُتْْبعاً ذلك بقوله متعجباً:
ﮋ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﮊ
وكأن القوم كانوا يعلمون بالله الواحد الأحد، ومع ذلك وجدوا الجرأة على أن يجعلوا له شركاء في الإلوهية والربوبيّّة، بدون أن تكون لهم حجة عقلية أو إلهيّة تبرّر شركهم .
ﮋ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﮊ
ليس السؤال سؤال من يريد جواباً، بل سؤال من يقرّر أن الأمن لمن لم يشرك بالله، من خلال المقارنة التي وضعها عليه السلام بين من أشرك بالله وبين من آمن.
ولم ينسب، عليه السلام ، الأمن إلى نفسه، التي جعلها فريقاً مقابلاً لفريق المشركين، إشارة إلى أن المؤمنين بالله أمة تتوالى على مّر الزمان وإلى يوم القيامة، فكان في إطلاق كلمة فريق، وهو أمامهم فرد واحد إشارة إلى المؤمنين على مِّر الزمان.
والأمن نقيضه الخوف، أما الخوف، فيأخذ هيئتين:
1- الحالة النفسية التي تعتري، الإنسان قبل الوقوع فيما يخاف .
2- مكابدة ذلك الأمر المخوف منه.
وكذلك هو الأمن: شعور يعتري الإنسان مما هو مقبل عليه، ثم السلامة التي ينعم بها في حال الإقبال على ذلك الأمر .
وعلى ذلك، فالخوف: هو الخوف من عذاب الله تعالى في الدنيا، والآخرة والأمن، هو السلامة والعافية للمؤمنين كما يريد الله تعالى.
ﮋ ﰇ ﰈ ﰉﮊ
اشترط عليه السلام للردّ على السؤال أن يكون لديهم العلم الذي يدلّهم على الإجابة السليمة، ولأنهم لا يملكون العلم، ولا يستسلمون للعقل الذي هو أداة العلم، فلا قدرة لديهم على الإجابة السليمة.
ولأن إبراهيم عليه السلام كان يملك العلم، أجاب على السؤال بقوله:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﮊ
ورد في الصحيحين عن ابن مسعود:
لما نزلت ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم...) شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه:
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)/لقمان: ١٣
فالظلم في الآية هو الشرك بالله، وهو أن تجعل لله تعالى شركاء في الإلوهية أو في الربوبيّة .
ﮋ ﭚ ﭛﮊ
مهتدون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بمعرفة المنهج القويم للحياة على الأرض، وفي الآخرة بالنور الذي يجعله الله لهم يوم القيامة، فيهديهم إلى جنة النعيم.
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)/ الأنعام: ٨٣
ﮋ ﭝﮊ إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام ، على قومه، وفي هذه الآيات وفي سواها .
ﮋ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﮊ
أي بالعلم والفهم والإمامة والملك[8]
أراد رب العالمين أن يرفع من درجات إبراهيم عليه السلام، فقدّر له من العقل والفهم ما جعل حجّته بالغة، ترد كل ما احتجّ به قومه، وهذا لا يعني أن الرفع من الدرجات حكر على إبراهيم5، فقد جاءت الآية أو الجملة في سياق الدلالة على العموم، فدرجات عباد الله في العلم والفهم والإمامة والملك تختلف من شخص إلى آخر، وأعظمها تلك الدرجات التي يحظى بها أنبياء الله تعالى ورسله وثم العلماء.
ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﮊ
جاءت هذه الجملة تعقيباً على ما كان من شأن إبراهيم 5، والكاف في قوله ( ربك ) تخصّ محمدا صلى الله عليه وسلم.
ﮋﭫ ﭬ ﮊ
رفع الدرجات، وما يستتبعه من ظواهر تشير إلى ذلك، يحققها جل شأنه من خلال اسمه { الحكيم }، ولكنها لم تأت حكمة خالية من العلم، بل جاءت جنباً إلى جنب مع علم الله تعالى البالغ لشأن العباد، وما يصلح لهم وبهم
الدعوة إلى الله ( 3 )مريم : الآيات 41- 48 إلى هنا وصلت 9-9
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)/ مريم: ٤١ – ٤٨
وفي نفس نسق الحوار الذي اتّبعه إبراهيم 5 مع قومه، كان حواره مع أبيه، ولكنّه كان أكثر رقّةً وشفقة:
ﮋﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ
وذكر إبراهيم عليه السلام يكون من خلال ذكر أحواله.
( صدِّيقاً ) على وزن على( فعِّيل ) وهي صيغة من صيغ المبالغة، أي أنه لم يكن يعرف سوى الصدق في الفعل والقول قبل الرسالة وبعدها، وهو في ذلك يشترك مع محمد 4، الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، فكان قومه يلقبونه بـ ( الصادق الأمين ).
وفي تقديم كلمة ( صديقاً ) على (نبياً) إشارة إلى أمرين:
1- جلال صفة الصدق عند الله تعالى.
2- أن إبراهيم عليه السلام قبل أن يكون رسولاً نبياً، كان بشراً صّديقاً، إشارة إلى أن صفة
( الصّديقّية ) ليست حكراً على أنبياء الله تعالى، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكْتب عند الله صديقاً ) رواه أحمد
فكان أن لٌقب أبو بكر رضي الله عنه بالصديق الأكبر، بدون أن يكون ذلك وقفاً عليها،
ﭧ ﭨﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﮊ الحديد: ١٩
فالصدّيقية صفة اتصف بها إبراهيم عليه السلام كغيره من البشر، ولكنه تميّز عنهم بأن جعله الله تعالى نبياً.
وفي هذه الآيات من سورة مريم استند إبراهيم عليه السلام في خطابه لأبيه على العاملين الفكري والوجداني، لعّل ذلك يقود أباه إلى الإيمان بما جاء به:
ﭧ ﭨ ﮋﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ
ألقى إلى أبيه بالخبر اليقين، الذي لا يستطيع العقل رده، وهو أن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تدفع عن عابدها ضرراً، وإلقاء الخبر في هذه الهيئة يدل على أن أباه، وكذلك قومه يدركون أن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تقدم نفعاً، لذلك قالوا لإبراهيم في تبرير عبادتهم لها
ﭧ ﭨ ﮋ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ الشعراء: ٧٤
ﮋ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮊ
الخطوة الثانية التي اعتمدها إبراهيم عليه السلام في حواره مع أبيه، أن أخبره بأنه أُلقي إليه من العلم مالم يُلقَ إليه، ومن خلال هذا العلم كان خطابه له في شأن هذا الأصنام .
ولم يقل عليه السلام، إني أعلم، لأن في ذلك استثارة لحفيظة الأب عن ما يدعي ولده أمامه أنه أعلم منه، بل قال ( جاءني من العلم ) إشارة إلى أن هذا العلم لم تيّسره له سنواته القليلة أمام سنوات الأب الطويلة، بل أُلْقي إليه إلقاءً من لدن حكيم خبير.
وفي قوله ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ إشارة إلى أن أباه كان ذا عقل وتدبير ونظر، يخوّله الفصل فيما يعرض له من أمور، فكانت كلمات إبراهيم عليه السلام تنبيهاً له إلى أن العلم الذي جاءه ليس مما هو متيسّر لديه .
وبناءً على هذه الحيثية التي قدمها، قال له:
ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮊ
أي ما عليك إلا أن تؤمن بما أدعوك إليه، لأهديك إلى الطريق السوي الذي لا اعوجاج فيه، وهو شرع الله تعالى.
ﮋ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ
بعد تلك المقدمات اللينة التي ألقاها إبراهيم عليه السلام أمام أبيه ألقى إليه المحور الأساس لدعوته.
ﮋ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮊ
وهو لم يكن يعبد الشيطان بل كان يعبد الأصنام. فما علاقة الأصنام بالشيطان ؟
إن عبادة الله تعالى تتمثل أولاً في الاعتراف بوحدانيته، وثانياً في التزام ما يرضاه من قول وعمل ولذلك فإن عبادة الشيطان تعني أن نفعل ونقول كل ما يريده الشيطان، فإذا عبدت صنماً، وتركت عبادة الواحد الأحد، فإنك تكون قد عبدت الشيطان بتحقيق الهدف الذي سخر نفسه وذريته له، وهو صرف الناس عن إخلاص العبودّية لله تعالى. وفي كلمة ( الشيطان ) مؤشّر على أن القوم كانوا يعلمون من شانه ما تبقّى من أثر الرسالات السابقة في ذاكرتهم.
وبّرر 5 هذا النهي بقوله:
ﮋ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ
ﮋ ﮘ ﮊ على وزن ( فعيل ) وهي صيغة من صيغ المبالغة، أي أنه بلغ من المعصية حدّأً لا مزيد عليه، إذ رفض أمر الله تعالى، وتحدّى إرادته، وحاول، ومازال، أن يصرف الناس عن عبادة الله تعالى، بداية بأبينا آدم 5، وإلى أن تقوم الساعة.
ونلحظ في الآية نسقاً هندسياً في البناء والدلالة، يدل على نسقٍ عالٍ من التفكير والمنطق:
يا أبت لا تعبد الشيطان
إن الشيطان كان للرحمن عصياً
فمن شأن عبادتك للشيطان أن تجعلك مثله ( ﮗ ﮘ )
ﮋ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮊ
ﮋ ﮜ ﮊ قيل: إنها بمعنى أعلم.
وشتان مابين الخوف والعلم. إذ الخوف حالة وجدانية تعتري قلب الإنسان بسبب أمرٍ مخيف. ولذلك فإن خوف إبراهيم على أبيه نابع من المصير الذي سيؤول إليه إن لم يؤمن بدعوة الإله الواحد.
{ أن يمسسك } إن يصيبك . { عذاب من الرحمن } جاءت كلمة ( عذاب ) نكرة، والنكرة تفيد العموم، كأن تقول رأيت شجرة، حيث أن السامع سيستحضر في ذهنه كل أنواع الشجر، إذ أن كل واحد منها تخضع الاحتمال أن تكون هي المرئية .
وهذا يعني أن إبراهيم عليه السلام لا يعلم نوع العذاب الذي قد يصيب أباه في حال عصيانه، ولا قَدْرَه
وقد جعل إبراهيم عليه السلام نزول العذاب بالمرء سبباً لأن يكون للشيطان ولياً. إذ الولّي هو الذي تتبعه ويتبعك، لتكونا بذلك فريقاً واحداً.
ومع ذلك فإن القول بأن ولاية الشيطان هي سبب العذاب، قول صحيح، وهو الأصل العام، بدون أن ينفي أن يكون العذاب سبباً لأن يكون المرء ولياً للشيطان.
فالذي يعصي الله تعالى في الدنيا إنما هو وليٌّ للشيطان، فإذا قامت القيامة، فإن العصاة الذين كانوا أولياء للشيطان في الدنيا سيكونون فريقين:
1- فريق لا يُصْرف عنه العذاب، ويلقى في جهنم، فيصبح بنزول العذاب به ولياً للشيطان .
2- وفريق يغفر له الله تعالى، فلا ينْزل به العذاب، إذ ذاك لن يكون للشيطان ولَّياً.
بمعنى أن العذاب إذا وقع بالعاصي، فإن وقوعه به شهادة ربَّانية بأنه وليّ للشيطان. فالولاية للشيطان تتحقق بعد وقوع العذاب بمن عبد الشيطان .
ثم إن كلمة ( أخاف ) توحي بأن الأمر احتمال، وليس يقيناً، كمن يريد إتمام مشروع ما، وعندما سُئل عنه قال( أخافُ أن لا يتم ) مشيراً بذلك إلى أن تمام المشروع وعدم تمامه احتمالان واردان.
ونلاحظ أن أبانا إبراهيم قد التزم في خطابه مع أبيه ذكر الله تعالى باسم ( الرحمن ) إشارة إلى أمرين:
1- ينبّه والده بذلك إلى أن الله تعالى ليس إلهاً قاسياً ظالماً، بل إله رحمن رحيم بعباده .
2- وعِظَم مظاهر الرحمة الإلهية التي شهدها 5 في نفسه وفي الكون جعلته يذكر الله تعالى بالاسم الذي يترجم هذه الحالة.
فماذا كان ردّ أبيه عليه ؟
ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﮊ
لم يجد أبو إبراهيم من ردٍّ على كل ما ذكره عليه السلام سوى أن يسأله { أراغب أنت عن إلهتي أي لا تريد عبادتها، بدون أن يذكر من الحيثيات العقلية أي شيء قد يدعم معتقده .
ﮋ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﮊ
أكّد أبو إبراهيم تهديده بثلاث مؤكدات: لام القسم في بداية الجملة، ونون التوكيد الثقيلة في { لأرجمنك } ثم اللام والمقترنة بالفعل، وكان بإمكانه أن يقول: إن لم تنته سأرجمك، ولكنه لم يقل ذلك، بل لجأ إلى كل ما تحتمله الجملة من مؤكدات، ليعبِّر بذلك عن شدّة تمسّكه بعبادة الأصنام، وبغضه الأشد لكل من يتعرض لها بالنكران والتحقير، حتى ولو كان ولده إبراهيم .
وقد يذكرنا هذا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في دعاءٍ له: اللهم إيماناً كإيمان العجائز. وذلك لأن العجائز يؤمنّ بدون إعمال الفكر في قضايا الإيمان. فكان أبو إبراهيم من هذا النوع، يعبد أصنامه بدون أن يستند في ذلك على منهج فكري.
وقد راعى إبراهيم عليه السلام حالته تلك، فكان يخاطبه بكل لين ورّقة، بدون أن يذم آلهته ذّماً مباشراً مثلما كان يفعل مع بقية قومه. ولكن الشقاوة كانت قدراً لأبي إبراهيم، فلم يكن له من ردٍّ على ولده سوى التهديد الشديد والقسم العنيد على أن لم يكفّ عن تسفيه آلهتهم.
ﮋ ﮰ ﮊ
1- لأقتلنك بالحجارة، أو لأضربنك حتى تتباعد.
2- أو لا شتمنك[9]
أما الشتم فإنه لا يليق، لأن إبراهيم، وإن خالفه فيما يعبد، يبقى منه، فإذا شتمه فإن الشتم سيصيبه هو أيضاً. وأما القتل أيضاً فأنه لا يليق، لأن ذكر بعد ذلك { واهجرني مليا } فكيف يهجره بعد أن يقتله ؟
وأما ( لأضربّنك بالحجارة حتى تتباعد ) فهو الأَوْلَى في التأويل، لأنه يريد صرفه عنه أولاً، والتعبير عن غضبه منه ثانياً.
ﮋ ﯓ ﯔ ﮊ
الواو حرف عطف، عطفت هذه الجملة على سابقتها، لتفيد اشتراكهما في مسار واحد، وهو مسار التهديد، فكان في طلب الهجران تهديداً له عليه السلام . وفي ذلك إشارة إلى مدى تعلق إبراهيم بأبيه وحبّه له، والذي يتضّح من قوله لاحقاً :
ﮋ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ.
ويوم القيامة يسأل ربَّه أن لا يجعل النار مصيراً أبيه وفي الحديث الذي رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكان أبو إبراهيم يدرك أن إبراهيم يحبه حباّ جّماً، ويدرك أيضاً أنه إن فقد نصرة أبيه له، فلن يجد ناصراً ينصره، وجعل الهجران الشقّ الثاني من التهديد إن لم يكف عليه السلام عن دعوته.
فماذا كان رد إبراهيم عليه السلام أمام هذا الوعيد ؟
ﮋ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
في مقابل التهديد والوعيد الذي صّرح به آزر لا إبراهيم، فإنه عليه السلام لم يجد في قلبه لأبيه سوى الشفقة والرحمة، والتي ترجمها على لسانه بقوله :
ﮋ ﯗ ﯘﯙ ﮊ
فجاءت كلمة { سلام } نكرة، إشارة إلى أن إبراهيم عليه السلام لا يعلم سلاماً بعينه، يدعو به لأبيه، لذلك تركه في مساحة من السَّلام الذي يريده الله تعالى. وقد ورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعينياً لذلك السلام الذي سيلقاه آزر يوم القيامة:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ﮋ قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا ربّ إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأيُّ خزيٍ أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول: إني حرّمت الجنة على الكافرين. ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟فينظر، فإذا هو بذبح ملتطخ، فًيؤخذ بقوائمه، فُيلقى في النار ﮊ رواه البخاري
وكأن ذلك الذبح كان فداء لآزر من النار، مثلما كان الذبح العظيم فداء لإسماعيل 5من الذبح بالسّكين.
ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﮊ ﯝ
ومن بين ذلك السلام الذي أراده إبراهيم 5 لأبيه أن يستغفر له الله، لأن الاستغفار يمحو الذنوب، فإذا مُحيت الذنوب سلم الإنساني من النار.
ﮋ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
الحفيّ: المبالغ في البرّ والإلطاف.
وحفاوة الله تعالى به عليه السلام هي التي أطمعته في الدعاء ولأبيه بالمغفرة والسلامة من النار، وفي ذلك إشارة إلى كرامته عند ربّه، والتي ستكون سبباً في غفران ذنوب أبيه، وهو الأمر الذي نجد له دليلاً في الحديث المذكور آنفاً.
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﮊ
العزلة: المفارقة.
ولم يصل إبراهيم عليه السلام إلى قرار اعتزالهم واعتزال آلهتهم إلا بعد أن لم يجد منهم قبولاًً لما يدعو إليه. ولم يكن قرار اعتزالهم اختياراً منه عليه السلام ، بل كان بأمر من الله تعالى، لأنه ليس للأنبياء أن ينصرفوا عن الدعوة إلى الله إلا بأمرٍ منه سبحانه، فإذا كان اعتزالهم بغير أمر من الله تعالى، فقد خالفوا أمر الله، وهو الأمر الذي لا تجوز نسبته إلى خليل الرحمن...
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﮊ
ترافق الدعاء مع نيته على اعتزال القوم. فما هو مضمون الدعاء ؟
إن الأنبياء أكرمهم الله تعالى بأن لم يجعل الدنيا همهم، ولا مبلغ علمهم، فكانوا، جميعاًُ، يرون أنفسهم غرباء في هذه الدنيا، لأنهم يعلمون من الله مالا يعلمه البشر الآخرون .
لذلك فإن دعاء إبراهيم عليه السلام كان يطلب به رضي الله تعالى، فإذا طلب شيئاً من الدنيا، فإنما يطلبه، ليكون علماً من أعلام الهداية في الأرض.
ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﮊ
قال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) / البقرة: ٢١٦
وهذه الآية تفسّر الشقاء الذي يقصده إبراهيم عليه السلام فقد كان يدعو بالخير لنفسه ولذريته ولمن آمن به، ولمن لم يؤمن، ولكنه لا يعلم إن كان ذلك الدعاء يحقق الخير على الأرض أم لا، لأن ذلك من علم الغيب، ولذلك كان يدعو الله أن لا يكون دعاؤه بالخير سبباً في شقاء البشرية على الأرض، الذي إن وقع، فسيكون سبباً لشقائه هو، والذي لن يعدو كونه ألماً وحزناً على العباد.
الدعوة إلى الله (4 )الأنبياء ، الآيات 51 – 71
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) الأنبياء: ٥١ – ٧١

ﮋ ﮠ ﮊ هُداه
ﮋ ﮡ ﮢ ﮊ من قبل موسى وهارون أو من محمد صلى الله عليه وسلم[10]
رشد فلان :إذا أصاب وجه الأمر والطريق. وقد يكون الرشد عاّماً، وقد يكون خاصَّاً، عاماً إذا كان مّما يتداوله البشر فيما بينهم، وخاصَّاً إذا كان تشريعاً ينزله الله تعالى على نبيٍّ من أنبيائه .
ولأنّ الآية في كتاب الله تعالى لا تنفصل عن سابقتها ولاعن لاحقتها، كان الأولى في تأويل هذا الرشد أ يكون الوحي الإلهي الذي ألقاه جلّ شأنه إلى إبراهيم عليه السلام ودليل ذلك أن الآيات السَّابقة لها ذكرت أن الله تعالى آتى موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً، صم ذكر ما أنُزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل هؤلاء جميعاً كان الرشد الذي آتاه الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم
ﮋ ﮣ ﮤ ﮥ ﮊ إشارة إلى أن الله تعالى آتاه ما آتاه، لعلمه بأنه أهْلٌ لأن يحمل كلماته،
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)/الأنعام: ١٢٤
إذْ: ظرف لما مضى من الزّمان، والظرف لا يكون إلا متعِّلقاً، فقالوا إنه متعلق بـ { آتينا }، وقيل بـ ( رشده )
ولكن البناء اللغوي يحتمل تعلّقه بطرف ثالث وهو قوله { عالمين }، أي: كنا به عالمين إذ قال لأبيه ... لتكون صفة العلم به عليه السلام محصورة في تلك اللحظة التي قال فيها ما ذُكر في الآية بدون أن يكون في ذلك نفيٌ لعلم الله تعالى به في كلُ أحواله، إذ تمّ الاقتصار على ذلك الموقف من دون سائر الأحوال، إشارة إلى جلال ذلك الموقف، وقَدْرِه العالي عند ربّ العالمين .
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﮊ
ليس السؤال سؤال من لا يعلم، فقد كان عليه السلام مقيماًُ بينهم، إنما كان سؤاله سؤال من يريد تحقير هذه التماثيل التي جعلها القوم آلهةً يعبدونها.
ﮋ ﮰ ﮱ ﮊ عكف على الشيء : أقبل عليه مواظباً، لا يصرف عنه وجهه. واستخدام اللام بدلاً من ( عن ) يجعل المعنى: لأجل عبادتها مقيمون فـ ( عكف على الشيء ) غير
( عكف عليه )، فالأولى تجعل الانصراف إلى الشيء مباشرة، كقول أصحاب العجل لهارون عليه السلام :
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)/طه: ٩١
وأما الثانية فإنها تشير إلى أن القوم يستحضرون إلوهية هذه التماثيل في مجمل حياتهم، أمامها أو بعيداً عنها.
وبالنظر إلى مجمل قصة إبراهيم عليه السلام ، سنلاحظ أنه كان يتّبع مع قومه أسلوب الحوار، المستند على الخطاب العقلي، فكان سؤاله ( ما هذه التماثيل ) فتحاً لأبواب العقل لديهم، لأن السؤال عن شأن خطير في حياة المرء من شأنه أن يستنفر كل قدرات العقل البشري، وهذا هو ما أراده عليه السلام ، لكي يمِّهد لما يريد أن يلقيه من أفكار
فماذا وجد القوم من منطق، يبررون به عبادتهم لهذه التماثيل، أمام سؤال إبراهيم عليه السلام ؟
ﮋ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﮊ
لم يجدوا من منطق يبررون به عبادتهم لهذه التماثيل سوى أنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، فاتبعوا خطاهم .
وفي تقديم الجار والمجرور ( لها ) إشارة إلى علوّ شأن هذه التماثيل في قلوبهم. فردّ عليهم إبراهيم عليه السلام ، مصرّحاً بحقيقة عبادتهم لهذه التماثيل:
ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
والضالّ: هو الذي لا يهتدي إلى الطريق الصحيح، فكان القوم، بعبادتهم لهذه التماثيل، قد ضلّوا الطريق إلى الإله الحق، وكان ضلالهم ضلالاً بيِّناً، لا يحمل في طياته أدنى احتمال للصحَّة.
ولأن القوم كانوا يقدسون هذه التماثيل، ويعظّمونها، لاعتقادهم أنها آلهة، تملك مصائرهم وأقدارهم قالوا:
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﮊ
لو كان القوم رافضين لمنهج العقل والمنطق الذي أتاهم به إبراهيم عليه السلام ،لا تهّموه صراحةً باللعب. ولكنهم، لمعرفتهم به، لم يُقبلوا على ذلك مباشرة، إشارة إلى أن سيرته عليه السلام ، في قومه كانت سيرة الصادقين، فلم يعهدوا عليه كذباً، تماماً كما كان الحال مع محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يُلقّب بالصادق الأمين، فأراد يوماً أن يستعين بصفته هذه في دعوة قومه، فقال:
( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مُصّدقيّ ) قالوا : ما جّربنا عليك كذباً رواه مسلم.
فكان، صلى الله عليه وسلم ، مشابهاً لأبيه إبراهيم عليه السلام في هذه الصفة، فكان خليل الرحمن ذا سيرة صادقة في قومه عليه السلام، وبناءً على ذلك فإن إبراهيم عليه السلام لم يصل إلى حالة القسم إلا بعد أن استنفذ كل أشكال الحوار العقلي مع القوم، وعندما لم يجد منهم سوى الصدّ والرّد والعناد، لجأ إلى شكل آخر من أشكال المواجهة وهو الكيد لأصنامهم.
ﮋ ﯺ ﯻ ﮊ
أعلن إبراهيم عليه السلام على مسمعٍ منهم جميعاً أنه سيكيد أصنامهم، بدون أن يرى القوم في ذلك ما يستدعي مراقبته أو حبسه أو حراسة الأصنام، فلم يَرْقَ ظنهم إلى أنه سيحطم آلهتهم، إضافة إلى اعتقادهم أن إلوهية وربوبية هذه التماثيل ستكون كفيلة برد كل يريده إبراهيم بها.
ثمّ إن إبراهيم عليه السلام، لم يقل إنه سيحطّم هذه التماثيل، بل قال إنه سيمارس كيلاً عليها، والكيد يأخذ أشكالاً عديدة، ولكنه لم يّرْقَ في أذهانهم إلى أنه سيحطّمها.
ﮋ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﮊ
التولي: هو الانصراف عن أمر كنتُ مْقبلاً عليه، وهذا مافعله القوم مع إبراهيم عليه السلام، ولم يكن توليهم هذا إلا إدبار عنه وعن دعوته عليه السلام.
وبين الكلمتين ( التولّي والإدبار ) علاقة وثيقة في مجال الإعراض عن دعوة الله تعالى، ولذلك تكرّر ورودها في القرآن الكريم، قال تعالى:
ﮋ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ المعارج: ١٧
حيث قدّم الإدبار على التولِّي.
ومع ذلك، فإنه لا تعارض بين الصياغتين، ففي قوله ( أدبر وتولى ) جاء حرف العطف الواو، ليعطف الفعل الثاني على الأول، والعطف بالواو يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكم واحد أو في زمن واحد، فكان في ذلك دليلاً على أن الإدبار جاء مترافقاً مع التولي، ولكنه كان تالياً له من خلال وعندما جاءهم بما ينفي الإلوهية عن تماثيلهم، منعتهم سيرته فيهم من أن يصفوه مباشرة باللعب، فسألوه ذلك السؤال الذي وضعه بين أمرين :الحق واللعب. ونلاحظ أيضاًَ أنهم لم يأتوا بالكلمة المقابلة للحق، وهي ( الباطل )، احتراماً لسيرته التي تمنعهم من ذلك، فذكروا اللعب الذي قد يكون كذباً مقصوداً، وقد يكون مداعبة من المداعبات .
فإبراهيم عليه السلام، في نظرهم، لا يقول إلا الحق، فإذا قال شيئاً يتعارض مع الحق الذي يعرفونه، فإنما هو لعب وممازحة.
ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﮊ
{ بال } حرف عطف، يفيد الإضراب عّما قبل، الإثبات لما بعده، فكان الإضراب عن كونه لاعباً فيما ألقاه إليهم من كلمات. والإثبات لربوبيته الله تعالى الذي بيده ملكوت السموات والأرض،
{ رب السموات والأرض } القائم عليها بالحفظ والرعاية، لأنه هو الذي { فطرهن } أي أوجدهنّ ابتداء ، ولم يشاركه في خلقهن أحد.
{ وأنا على ذلكم من الشاهدين } الشاهد هو الذي يملك من العلم المُشَاَهَد ما يجعله صاحب القول الفصل فيما شاهده. ولكنه عليه السلام ، لم يشهر خلق السموات والأرض بحواسِّه، ليكون من الشاهدين، فقد كانت شهادته على ذلك قائمة على إيمانه اليقيني بالخير الذي ألقاه إليه رب العالمين.
ﮋ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﮊ
إن الحوار الذي أورده جل شأنه فيما سبق، لم يكن هو كل ما دار بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه. فقد اكتفى جل شأنه بالمحاور الرئيسية في الحوار، تاركاً للعقل مهمة استنباط ما بين تلك المحاور. لا يحمل من الكمّ الدلالي ما يجعل إبراهيم عليه السلام ، يصل إلى درجة القسم بأن يكيد أصنامهم. فالأنبياء هم أكثر عباد الله صبراً على الجدال والمحاور. ومن بينهم كان إبراهيم عليه السلام النظر إلى ترتيبهما في الجملة
وأمّا في قوله ( بعد أن تولوا مدبرين ) فقد جاءت ( مدبرين ) حالاً، أي أن توليهم لم يتحقق إلا في ظل وجودهم في حالة الإدبار، ولولا إدبارهم لما عُرِف توليهم، فكان إلادبار أولاً والتولي ثانياً
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﮊ
أي جعلهم قِطَعاً، من الجذع وهو القطع، ولم يكن الكيد للأصنام فقط، بل ولعابدتها:
1- فكيده للأصنام هو تحطيمه إيّاها، وإلصاق الفعل بكبيرهم ( بل فعله كبيرهم هذا ) فإذا اقتنع القوم بذلك، يكون عليه السلام ، قد حقق بذلك هدفين اثنين: الأول تحطيم تلك الأصنام وإزالة هياكلها من الوجود، والثاني: تحطيم مكانة كبيرهم في قلوب عابديه.
2- وكيده للقوم كان من خلال استعانته بما يعتقده القوم في تلك التماثيل، للوصول إلى الحجة العقلية الدامغة، والتي ليس ردّها من سبيل، والتي تتجلّى في قوله:
ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﮊ
لعلّ للترجّي، أي أنه عليه السلام كان يرجو أن يرجع القوم في سؤالهم إليه، ومما قيل في تفسير الضمير في قوله { إليه }
1- إلى الكبير فيسألونه عن كسرها.
2- أو إلى إبراهيم، ليحتّجّ عليهم.
3- أو إلى الله لما رأوا عجز آلهتهم.
ولكن النصّ يرجّح أن الرجوع كان إلى كبير الأصنام، وبدليل أن إبراهيم عليه السلام استثنى كبيرهم من التحطيم، ليكون وسيلةً له في إجراء حجّته. فإذا رجعوا إليه ورأوه عجزه عن الردّ، وأدركوا أنه غير قادر على تحطيم الأصنام، رجعوا إلى إبراهيم عليه السلام وإلى دعوته التي يدعو بها، والتي هي في الأصل دعوة الله تعالى.
ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ
جملتان،الأولى إنشائية { من فعل هذا بآلهتنا } والثانية خبرية { إنه لمن الظالمين }
تم تأكيدها بـ ( إن واللام ) إشارة إلى مدى ما يرونه من فداحة في تحطيم ألهتهم وإلى أن من جرؤ على تحطيمها قد بلغ حدّاً في الظلم وليس عليه مزيد
ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ
لم يملكوا من الأدلة ما يهديهم إلى من حطّم آلهتهم.
{ قالوا } وهم تلك الفئة التي حاورها إبراهيم عليه السلام في البداية
{ فتى } إشارة إلى أنه عليه السلام كان صغيراً، بالنظر إلى أعمار أولئك الرجال الذين كانوا يحذرونه.
{ يذكرهم } لم يقولوا: يعيبهم، لأنه عليه السلام لم يسبّ آلهتهم سَّباً مباشراً، إذ كان منهجه معهم يعتمد الحوار العقلي، وكأن انصرافه عليه السلام عن سبّ آلهتهم كان امتثالاً لقوله تعالى في القرآن الكريم.
ﭧ ﭨ ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﮊ الأنعام:
ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ
إن ذكرهم لإبراهيم عليه السلام بهذه الصياغة، يشير إلى أنه عليه السلام لم يشتهر بين القوم بالدعوة إلى الله، فكان تنكير { فتى } من هذا القبيل، لأن النكرة تفيد العموم. وقولهم { يٌقال } إشارة أن هؤلاء القوم لا يعرفونه إنما سمعوا بعضاً منهم يناديه باسم { إبراهيم }
ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﮊ
الذين قالوا ذلك هم غير الذين قالوا { سمعنا فتى يذكرهم } وفي ذلك إشارة إلى أن من أَمَرَ بالإتيان به كان يملك البساطة والقدرة على ذلك.
ﮋ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ أي بمرأى منهم ومنظر، لكي يشهدوا انتصاراتهم لآلهتهم، وانتقامهم ممّن حطّمها. ولكنهم لم يكونوا يعلمون أنّ ما هم بصدده كان بتدبير من الله تعالى، لكي يُتِمَ إشهار دعوة رسوله من خلال ذلك الموقف، لأنَّ في اجتماع الناس ليشهدوا ما سيحل بإبراهيم عليه السلام ، إعلاء لذكره ولدعوته، تماماً كالذي حدث مع موسى عليه السلام ، عندما واعده فرعون يوم الوينه حيث يُحْشر الناس ليروا انتصار سحر فرعون على عصا موسى:
ﭧ ﭨ ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮊ طه: ٥٩
ﮋ ﭱ ﭲ ﮊ
يرجون أن يكون في حضوره ومساءلته أمام الناس شاهداً عليه بما سمعوه منه، أو بما فعله، أو ليشهدوا عقابه. ولا مانع من أن يكون كل ما ذُكِر هو مرادهم.
وبعد أن جيء به عليه السلام أمام الناس، ليكونوا شاهدين على ما يظهر لهم من أمر تحطيم آلهتهم، بدأت المساءلة:
ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﮊ
فكان في سؤالهم إشارة إلى أمرين:
1- أنهم لا يملكون الدليل الذي يقطع بأن إبراهيم عليه السلام هو من فعل ذلك .
2- سيرته الصادقة فيهم، جعلتهم يُحْجمون عن مخاطبته بدون احترام له أو تقدير.
وقد رأى إبراهيم عليه السلام في سؤالهم منفذاً يدخل من خلال إلى عقولهم، فقال { بل فعله كبيرهم هذا } فكان في قوله هذا ما جعل إيمانهم على المحكّ الذي لا يبقى معه شك، فهم يعتقدون أن آلهتهم تفعل وتفعل وتفعل، وتتحكم في مصائرهم كما تشاء، فكيف لا يتحكم كبير الآلهة في مصائر الآلهة الصغيرة ؟
ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮊ
السؤال لا يُطرح إلا إذا كان هناك من يجيب، فدعاهم إلى سؤال كبير الآلهة والآلهة المحطّمة عّمن حطّمها، فإذا أدركوا أنها لا تملك ردّاً ولا جواباً ولا كلاماً، كان في ذلك حجة لإبراهيم على قومه. يردهم بها عن عبادة الأصنام ويؤيِّد بها ما يدعوهم إليه.
فعندما دعائهم عليه السلام إلى سؤال الآلهة، كانت البلبلة لدى القوم، والصمت الناتج عن ضعف الحجّة، بل عن انعدامها، فتوقفوا عن الحوار مع إبراهيم عليه السلام ، وبدئوا الحوار فيما بينهم، فقالوا:
ﮋ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ
فرجعوا إلى عقولهم وتنكروا بقلوبهم[11] لأن حجة إبراهيم عليه السلام ، القائمة على الدليل المادي الملموس، كانت أقوى من كل جدال ومن كل خطاب فقالوا لأنفسهم
{ إنكم أنتم الظالمون } أسندوا الظلم إلى أنفسهم بعد أن أسندوه في الآيات السابقة إلى من حطّم آلهتهم. ولا مجال لتفسير الظلم الذي رأوه في أنفسهم إلا بما اعتقدوه من إلوهية هذه التماثيل، التي لا تنطق، ولا تدفع عن نفسها ضراً، فكيف تدفعه عن الآخرين؟ !
فكانت هذه الجملة بداية الطريق إلى الإيمان بدعوة إبراهيم عليه السلام ، فأوشك كيده عليه السلام ، أن يُؤتي ثماره:
ﮋ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ
قال أهل التفسير: أجري الله تعالى الحق على لسانهم في القول الأول، ثمّ أدركتهم الشقاوة، أي رُدّوا إلى الكفر بعد أن أقرّوا على أنفسهم بالظلم. يُقال: نكسته، أي قلبته إذا جعلت أعلاه أسفله، أي أنهم استقاموا عندما رجعوا إلى أنفسهم، وجاءوا بالفكرة الصالحة { إنكم أنتم الظالمون } ثم انقلبوا عن تلك الحالة، فأجدوا في المجادلة بالباطل والمكابدة[12]
وبُني الفعل { نٌكِسوا } للمجهول، فحذف الفاعل الذي قام بفعل المنكس وهو الشيطان ونفوسهم الأمَّارة بالسوء، وكان من آثار هذا النكس:
ﮋ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ
من حيث لا يعلمون شهدوا على آلهتهم بأنها لا تنق، وعلى أنفسهم بالضلال، إذ يعبدونها وهم يؤمنون بعدم قدرتها على النطق. ولم يكن إقرارهم بهذه الحقيقة طعناً في إلوهية أصنامهم، لأن الله تعالى أخبر عن انتكاستهم بهذه الجملة، وليس لهذه الكلمات أن تكون مظهراً من مظاهر انتكاستهم إلا إذا كانت دفاعاً عنها وعن عبادتهم لها، لا أن تكون ذّماً لها.
ولذلك فإن الحقيقة التي ذكروها تندرج في سياق إرادتهم القول بأن هذه التماثيل آلهة، ولكنها آلهة لا تتكلم.
أما إبراهيم عليه السلام فقد رأى فيما قالوه مستنداً عقلياً، يستند عليه في هجومه الفكري التالي:
ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ
صيغة السؤال توحي بأن القوم أدركوا من خلال حوارهم مع إبراهيم عليه السلام أن آلهتهم لا تضرهم شيئاً. ولا تنفعهم في ظل عدم قدرتها على ردّ الضرر الواقع عليها، فكان في سؤاله هذا تقريع وتوبيخ لهم على استسلامهم لعبادة مالا يملك لهم ضرَّاًَ ولا نفعاً
ﮋ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮊ
أفّ: صوت إذا صُوّت به عُلِم أن صاحبه متضجّر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق[13]
1- إن الحوار الوارد في الآيات لا يوحي بوصوله عليه السلام إلى الضجر من إصرارهم على عبادة تلك الأصنام، لأن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى نفس طويل لا يقف عند حدّ تلك الآيات المذكورة، أي أن الحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه لم يكن محصوراً فيما ذكر، بل كان هناك قدر كبير من الحوار، أعرض القرآن عن ذكره، كانت مًحَصِّلته النهائية إصرار القوم على كفرهم، ومن ثَمَّ ضجره عليه السلام من هذا الإصرار، والذي عبّر عنه بالكلمات المذكورة آنفاً.
2- وكان ضجره عليه السلام منهم ومما يعبدون، مع أن الأصنام لم تمارس جدالاً معه عليه السلام ، فقد كان ضجره منها لما تحتله من مكان في عقول القوم وفي نفوسهم، جعلتهم لا يستسلمون لدعوة الله تعالى. في ظل إرادته عليه السلام إنالة كل أثر لها في نفوسهم، فوقف إصرارهم على فقط تراث آبائهم عائقاً كبيراً أمام الإيمان بالله الواحد الأحد.
3- أما كلمة ( أف ) فتحمل في طياتها إشارتين:
أ- أن قائلها قد بلغ أقصى درجات الاحتمال، فلم تَعُد لديه القدرة على المزيد، فكان في نطقه لها إعلان عن التخلي عن كل مظهر ن مظاهر القضيَّة...
ب- والإشارة الثانية هي أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يملك من مظاهر التعبير عن الضجر سوى أقل ما يمكنه ظهوره من الإنسان، وهو كلمة ( أفّ )، أما الآخرون فإنهم قد يسبّون وقد يضربون... أو أي شيء من هذا القبيل . وفي ذلك إعلاء لمقام إبراهيم عليه السلام ، الذي اتخّذه الله خليلاً، ومن قبل ذلك آتاه رشده .
{ أفلا تعقلون } استفهام، يتعجب من خلاله عليه السلام لاستسلامهم لفكرةٍ يرفضها العقل تحت أي صورة من الصور، فكان في استسلامهم لها مؤشّر على أنهم لا يعقلون.
وعند ما عجز القوم عن مجاراته عليه السلام في الحَّجة والمنطق الجئوا إلى القوة التي يملكونها، لإقرار مالم يستطع العقل إقراره، وهو قولهم:
ﭧ ﭨ ﮋ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﮊ
روي أنهم حين همُّوا بإحراقه حبسوه، ثمّ بنوا بيتاً بـ ( كوثى )[14]وجمعوا، شهراًُ، أصناف الخشب، ثم أشعلوا ناراً عظيمة، كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها، ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فرموا به فيها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل وقال له جبريل: هل لك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا. قال فسل ربك. فقال حسبي من سؤالي إلى علمه بحالي. وما أحرقت النار إلا وثاقه[15]
ورد الأثر السابق فيما كُتْب من سيرة إبراهيم عليه السلام ، ولكنه لم يكن مما جاء منصوصاً عليه في كتاب الله تعالى، ولم يرد فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، ومع ذلك، فسأحاول البحث في نصّ الآية المذكورة عن بعض هذه الدلالات :
{ حرقوه } جاء الفعل مضعّفاً، ومن شأن التضعيف في الفعل أن يوحى بإرادتهم البالغة في حرقه عليه السلام ، ولا تتحقق المبالغة في ذلك إلا من خلال نار عظيمة غير ما اعتاده الناس، يعبّرون من خلالها عن شدّة غضبهم لآلهتهم التي جرؤ عليها هذا الفتى، فحطّمها .
فإذا كانت النار عظيمة، فإن من يقترب منها لن يحتمل حرارتها، ولكي يتمكنوا من إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار بدون أن يكابدوا حرَّها، استخدموا وسيلة تحقّق لهم ذلك بدون أن يتعرّضوا لوهج النار، فكان المنجنيق، وهو سلاح كانوا يستخدمونه قديماً لهدم الأسوار والقصور، بوضع الحجارة الثقيلة فيه، ومن ثّمَّ قذفها إلى تلك المواقع، فإذا كان المنجنيق يحمل حجراً ثقيلاً، ويلقي به بعيداً، فإنه على قذف الإنسان أقدر، ولذلك استخدم في إلقاء إبراهيم 5 في النّار.
ﭧ ﭨ ﮋ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ
أي: إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً، فاختاروا له الإحراق بالنار[16]
ﭧ ﭨ ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ
في هذه الكلمات ثلاثة محاور:
1- { كوني } قال تعالى.
ﭧ ﭨ ﮋ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ يس: ٨٢
فأراد جل شأنه أن تكون النار برداً وسلاماً فكانت، ولم تحرق منه إلا القيد الذي قيدوه بهز
2- { برداً وسلاماً } عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لو لم يقل ( سلاماً ) لأهلكته ببردها[17]
ولكن إمعان النظر في جوانب هذه المعجزة ينفي ذلك التأويل، ويهدينا إلى تأويل آخر يبرز من خلال جانبين:
أ- الجانب العقيدي
لقد أراد القوم أن يهلكوا إبراهيم بإلقائه في النار، وأراد الله تعالى له النجاة، فكان مناط تحقيق هذه الإرادة من خلال قوله ( برداً ) فهل من المعقول أن ينجيّه الله تعالى من الهلاك بالنار، ليكون هلاكه بالبرد ؟!
لذلك جعل ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى ( سلاماً ) تقييداً لقدر ذلك البرد، وجعل على ألطف ما يكون، وهو بذلك التأويل يجعل كلمة ( سلاماً ) مكملة لكلمة ( برداً ) .
ولكن هل ترون أن الله تعالى عندما أراد أن تكون النار برداً، لم يضمِّن تلك الإرادة أن يكون البرد في ألطف صورة على إبراهيم5 ؟
لقد أراد الله تعالى لإبراهيم النجاة من النار، ولو كانت النجاة محصورة في قوله ( برداً ) فقط، لكان البرد على الصورة المرادة، ولما احتاج المقام إلى قوله ( وسلاماً )، لتكون بذلك حشواً لا موضع له في الدلالة وهو الأمر الذي يتعارض مع أصول الاعتقاد في كلام الله تعالى
ب- الجانب العلمي
من شأن الذي يُلْقى في النار أن يعاني من أمرين:
الحرارة الشديدة
الاحتراق.
ولذلك كان قوله تعالى ( برداً ) نقضاًَ لقانون الحرارة الشديدة فلم يحس إلا بالبرد اللطيف. ولو وقف الأمر عند هذه الكلمة لاحتراق جسد إبراهيم 5 بدون أن يشعر بحرارة النار، ولذلك قال جل شأنه ( سلاماً ) أي سلامة لجسده 5 من الاحتراق بالنار.
3- { على إبراهيم } قصر جل شأنه { برداً وسلاماً } على إبراهيم5، فلم يكن لها أن تتجاوز في هذا الأمر أبانا إبراهيم، فكانت تحرق كل ما فيها، وإبراهيم في قلبها لا يشعر بحرّها، ولا يناله حرقها، حتى أن الوثاق الذي قُيِّد به أكلته النار، بدون أن تتجاوزه إلى متعلقاته5 من ثوب أو رداء.
ﮋ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﮊ
ﮋ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ أي إحراقاًً.
ﮋ ﯢ ﯣ ﮊ فأرسل على نمرود وقومه البعوض، فأكلت لحومهم، وشربت دمائهم، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود، فأهلكته[18]
فقد أرادوا به كيداً، من قبل ذلك أقسم 5أن يكيد أصنامهم، فوصلوا في كيدهم له أن قيّدوه على ملأ من الناس، ومن ثمّ ألقوه في النار، وظنوا أنهم ربحوا معركتهم على إبراهيم5، فتدخلت القدرة الإلهية
ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﮊ
ملاحظة:
من الأمور العجيبة، والمدرجة في إطار النار التي أُعدَّت لإحراق إبراهيم5ما روي من شأن الوزغ[19]
عن أمّ شريك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، فقال ( كان ينفخ على إبراهيم ) رواه البخاري رواه مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد
دخلت امرأة على عائشة، فإذا رمح منصوب، فقالت: ما هذا الرمح ؟
فقالت: نقتل به الأوزاغ، تمّ حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم لما أُلْقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ، فإنه جل ينفخها عليه ) رواه أحمد بن حنبل، رواه ابن ماجه من طريق آخر
فما هي الحيثيات التي جعلت الوزغ مقبلاً على أن ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام فان عقاب الله تعالى له أن جعل قتله عملاً يُؤْجر عليه كل من فعله ؟
1- لو سلّمنا أن الوزغ ما هو إلا دابَّة من دواب الأرض، لا تملك إلا أن تسير على القدر الذي قدّره جلّ شأنه لكل الدواب، أن تعبد الله، وتسبّحه، ولا شيء غير ذلك مثلها مثل الملائكة، لأنّ المعصية منوطة بالتكليف، فإذا لم يكن هناك تكليف، فليس للمخلوق إلا قدر واحد، وهو تنفيذ أمر الله تعالى.
2- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ، ولا يكون الأمر بذلك إلا لوزرٍ عالق بهذه الدابة، أفصح عنه صلى الله عليه وسلم بقوله ( كان ينفخ لنار على إبراهيم ) فهل يكون على هذه الدابة وزر إن لم تكن صاحبة تكليف على الأرض، تجازي على فعله، وتعاقب على مخالفته ؟
3- ثَمّ إن الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى، فإذا ارتكبت يداك شراً وأنت لا تنويه، فإن من عدل الله تعالى أن لا يحاسبك على ذلك، فإذا كان نفخ هذه الدابَّة جاء عفواً، على اعتبار أنها دابة، لا تعقل من أحوال الناس شيئاً، فإن من العدل الإلهي أن لا يجعل القتل سنة متبعة في جنسها.
وبما أن العذاب لم يُصْرف عنها، فإن ذلك يعني أنها كانت تنوي أن تزيد من اضطرام النار بنفخها، وهي نقد بذلك تأكيد الأذى بإبراهيم5، وليس هذا فحسب، بل وكانت تعلم أن إبراهيم 5 رسول الله، ولذلك أرادت أن تساهم في حرقه، عقاباً له على تحطيم الأصنام، مثلما أراد قومه له.
4- وفي ظلّ هذه الحيثيات، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون الوزغ دابةً خلقها الله تعالى أصلاً بهذه الصفة، وذلك من خلال مؤشرين
أ- أن الدواب التي خلقها الله تعالى لا تملك تكليفاً تُعَاقَبُ عليه إذا تركته.
ب-أن الله تعالى مسخ بعض البشر إلى حيوانات، عقاباً لهم على عصيانهم، فكان أن جعلهم في صور حيوانات، ولكنها حيوانات بغيضة لدى القلوب المؤمنة:
1- قال تعالى في شأن بعض اليهود الذين خالفوا أمر الله تعالى:
ﭧ ﭨ ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮊالبقرة: ٦٥
فكان للقردة هذا المظهر المخزي والطباع الأخزى أمام أعين الناس
2- وقال جل شأنه في موضع آخر
ﭧ ﭨ ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ المائدة: ٦٠
فمسخ فريقاً من هؤلاء القوم، وجعلهم خنازير، وتعلمون جيداً مافي الخنزير من صفاتٍ وطباع مخزية، إضافة إلى أن لحمه من اللحوم المؤذية التي لا فائدة ترجى منها في حياة الإنسان. حتى أن الناس إذا أراد أحدهم أن يسب صاحبه سبَّاً بليغاً نعته بهذا الاسم
3- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فقدت أمة من بني إسرائيل لا يُدْرى ما فعلت، ولاأُراها إلا الفأر ) مسلم وأحمد
وهي التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الفويسقة ) تصغيراً لكلمة ( فاسقة )، وكان من مظاهر هو أنها، وعقاب الله تعالى لها أن جعل القتل عليها سنة، فلا يراها أحد إلا قتلها، وأنها إذا وقعت في طعام نجّسته.
كل ما سبق ذكره من شأنه أن يشير إلى أن الوزغ كان في الأصل فريقاً من الناس، وذلك من خلال منظارين:
1- فريق من قوم إبراهيم كان أكثر إقبالاً على حرقه5، فَمَسَخَهُ الله تعالى إلى الوزغ بعد نجاة نبيَّه من النار، وهجرته إلى فلسطين، فكانوا جنس الوزغ الذي ليس له في قلوب الناس إلى يوم القيامة سوى البعض الشديد.
2- أو أنهم قوم، مُسِخوا من قبل إلى هذه الصفة، فكانوا وهم في صورة الوزغ، يحملون نفس الذات الفاسدة، التي كانوا عليها إبراهيم5.
وبالنسبة لي، فإني أميل إلى الرأي الأول. والله أعلم.
ﮋ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ
وعلى ما يبدو فإن المعجزة التي حدثت مع إبراهيم5 لم يستسلم لها قومه، فاستمرّوا على شركهم بالله تعالى، وليس هذا فحسب، بل وأرادوا إلحاق الأذى بإبراهيم5 فنجّاه الله تعالى من تلك المحاولات مثلما نجاه من النار، ثمّ أمره بالهجرة إلى الأرض المباركة، فخرج من بين قومه وهم لا يعلمون، مثلما خرج محمد صلى الله عليه وسلم ، فنجاه الله منهم مثلما نجى أباه إبراهيم5.
وكان مع إبراهيم الخليل في هجرته اثنان: زوجه سارة التي آمنت به، وابن أخيه لوط : ﮋ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮊ
ﮋ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ
أي أرض الشام، وبركتها أنَّ أكثر الأنبياء فيها، فانتشرت في العالمين آثارهم الدينيَّة، وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير [20]
فمن الشواهد على عظمة هذه الديار المقدسة أن جعل الله تعالى في جنباتها، بركة عظيمة، ليس لأهلها فحسب، بل للعالمين جميعاً، وليس شرطاً أن يشهد الناس تلك البركة ويعلموها أرقى وأسمى من أن يدركها الإنسان، وهذه هي البركة فلسطين، والتي توجب على العالمين الحفاظ عليها من كل المظاهر الشيطانية...والحديث في ذلك يطول ولكن ليس هذا مكانه.
الدعوة إلى الله الشعراء: الآيات 69- 82
ﭧ ﭨ ﮋ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﮊ الشعراء: ٦٩ – ٨٢
ﮋ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ
أي: اقصص يا محمد على الناس جميعاً خبر إبراهيم 5.
ﮋ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮊ
يسألهم عن هوَّية المعبود الذي يعبدونه، ولكنَّه ليس سؤال من لا يعلم، فقد كان يعيش بينهم، وما سؤاله لهم إلا فتح لباب الحوار معهم، في إطار الدعوة إلى الله تعالى، ونبذ عبادة هذه الأصنام.
ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ
ذلك كان الجواب الوحيد الذي يملكونه ردّاً على سؤال إبراهيم،( أصناماً ) الصنم في اللغة : هو ما كان له جسم أو صورة، وعُبِد من دون الله، ويؤيد هذا المعنى قوله 5 لقومه: ﭧ ﭨ ﮋ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ الصافات: ٩٥
حيث إن النحت هو النشر أو القشر أو القطع للأخشاب أو الأحجار
فأقرّوا أنهم يعبدون هذه المنحوتات، ويدينون لها بالخضوع، خضوع العبد للإله.
ﮋ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮊ
أعطاهم إبراهيم 5 من الحقائق الملموسة ما يقودهم إلى المسار الذي يريد:
هل يسمعونكم
هل ينفعونكم أو يضرون.
ولم يكن أحد منهم يستطيع الإجابة بـ( نعم ) على تلك الأسئلة، لأنّ الواقع يشهد شهادة قاطعة بأنهم لا يسمعون ولا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون . ولذلك كانت إجابتهم لإبراهيم5 إجابة صادقة، دون أن يروا فيها ما يمثّل انتقاصاً من قدر آلهتهم:
ﮋ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ
{ بل } تفيد الإضراب عما قبلها، والإثبات لما بعدها، وكأنهم بذلك يقولون: نحن لا نعبد لأنها تسمع أو تضر وتنفع، فقد علمنا أنها لا تملك ذلك، بل عبدناها، لأننا وجدنا آباءنا يعبدونها، فقط لاغير.
وإلى هنا تكتمل الحيثيات المنطقية التي أراد إبراهيم5 إلقاءها إلى القوم، وأصبحت الطريق خالية إلى عقولهم أمام الفكرة التي أراد أن يلقيها، والتي أخذت شقين: الأول رفض عبادة الأصنام، والثاني ذكر عدد من الأدّلة الواقعية، التي تشهد لله تعالى بالوجود والوحدانية:
الشق الأول:
ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ
أرأيتم هذه التماثيل التي تعبدونها، وعبدها آباؤكم من قبلكم
ﮋ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﮊ
وعدوّك هو الذي لا يريد سوى الهلكة، ولذلك قال تعالى:
ﭧ ﭨ ﮋ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﮊ فاطر: ٦
حيث لا تتجلى عدواتنا له إلا في الانصراف عن كل فعل يريد لنا الشيطان أن نفعله.
وعداوة إبراهيم5 لهذه الأصنام تعني عدم الإيمان بها آلهة، لأن الإيمان بها يورد الإنسان عذاب النار يوم القيامة.
وقد استخدم 5 أداة الاستثناء ( إلا ) إشارة إلى أن آباءهم الأولين لم يكونوا جميعاً عبده للأصنام، بل كان فيهم من يعبد الله وحده، فاستدعى قوله ( آباؤكم الأولون ) استثناء رب العالمين من بين المعبودات التي أعلن عداوته لها.
الشق الثاني
ﮋ ﯣ ﯤ ﮊ
تبرّأ إبراهيم5 من كل معبود يعبده القوم، ومن قبلهم آباؤهم الأولون، واستثنى ( رب العالمين ). ولأن هذه الصفة غريبة عن القوم أراد 5 أن يذكر قدراً من مظاهر هذه الربوبية :
ﮋ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﮊ
لم يقل:الذي خلقكم فهو يهديكم، ولو قال لكان قوله طابقاً للحال، ولكنه لجأ إلى ذكر مظاهر الربوبية في نفسه هو، إشارة إلى ما يلي:
1- عِظَم إحساسه بنعمة ربه عليه، وعِظَم إيمانه بحقيقة وجوده، التي كانت خلقاً بيدي الله تعالى.
2- إصرار القوم على عبادة الأصنام، وانصرافهم عن دعوته عليه السلام ، جعلته يقصر الحديث على نفسه، وكأنه بذلك بقول: إن تنصرفوا أنتم عن عبادته، والإيمان به خالقاً وهادياً، فإني أشهد أنه هو خالقي، وهو الذي بيده هدايتي، وممن كمال خلقه لي أن يسَّر لي من الأسباب ما يهديني إلى الصراط المستقيم.
ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﮊ
الطعام والشراب هما الركنان الأساسيان لبناء الإنسان من بين الأحياء على الأرض، وهاهو إبراهيم5 يقرّ أنهما بيد الله تعالى.
ﮋ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ
الركن الثالث من أركان البقاء على قيد الحياة، ركن الشفاء من الأمراض، فإذا اجتمعت هذه المحاور الثلاثة للإنسان، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها، كما قال صلى الله عليه وسلم:
( من أصبح منكم معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ) رواه الترمذي وابن ماجه.
ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﮊ
نجد الخلق والهداية وبعد الطعام والشراب والشفاء يأتي الموت على الإنسان، وبعد الموت يحييه الله يوم القيامة.
وفي التعبير بـ ( ثمّ ) في هذه الآية إشارة إلى طول المُدَّة بين موت الإنسان وبعثه، لأن( ثمّ ) من حروف العطف التي تفيد الترتيب مع التراخي، بينما الآيات السابقة كان التعبير بالفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب، فقد جاءت الهداية عقب الخلق، والشفاء عقب المرض .
لقد أراد 5 من ذكر هذه الشواهد دفع القدم إلى النظر في أحوالهم، ومن ثمّ أن يسألوا أنفسهم: من الذي خلقنا، ومن هو الذي يطعمنا ويسقينا، والذي يسّر لنا الشفاء من الأمراض التي تعترينا. فإذا سألوا أنفسهم هذه الأسئلة، في ظلّ إدراكهم أن تلك الأصنام التي يعبدونها لا تملك لهم ضرّاً، ولا نفعاً، فإنهم سيسلّمون، إن صحت قلوبهم بما يدعو إليه إبراهيم5
ﮋ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﮊ
والطمع هو أن تطلب شيئاً ترجوه .
قيل إن خطيئة إبراهيم5 في قوله ( إني سقيم ) و ( بل فعله كبيرهم هذا) أو قوله ( هذا ربي للشمس والقمر، وقوله في زوجته ساره ( هي أختي ). ولكنها ليست بخطايا، يطلب لها الاستغفار، فاستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، وتعليم الأمم في طلب المغفرة[21]
ولكنه5 بقوله ( خطيئتي ) يقرّ أن له خطيئة تلجئه إلى طلب المغفرة من الله تعالى. فما هي هذه الخطيئة ؟
إن الإيمان إذا تعاظم في قلب المؤمن، فإنه يجعله يرى نفسه بعيداًَ عن الهيئة التي يجب أن يكون عليها ع ربه. والأنبياء هم أكثر خلق الله نعرفه به سبحانه، وأكثر إيماناً، فإذا رأوا أحوالهم ومظاهرهم الدنيوية، لم يرضوا عن أنفسهم، ورأوا في تلك المظاهر خطايا تستحق طلب المغفرة من طلب المغفرة من الله تعالى، فالمظاهر الدنيوية من أكل وشراب وخلاء وجماع ونظر دنيوي، كلها شوائب في نظرهم، لا تليق بالحضور الإلهي في أنفسهم، وكأنهم يريدون أن يكونوا ملائكة لا تعرف سوى التسبيح والسجود لله تعالى في كل لحظة من لحظات أعمارهم
الدعوة إلى الله { 6 } العنكبوت الآيات 16 – 26
ﭧ ﭨ ﮋ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ العنكبوت: ١٦ – ٢٦
ﮋ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﮊ
{ واعبدوا الله واتقوه }
العبادة هي التوجّه إلى الله تعالى، وإخلاص العمل له سبحانه والتقوى هي نفس فعل الصالحات وتجنب الموبقات. ولو أن قوم إبراهيم5 كانوا يملكون العلم المباشر بحقيقة العبادة وحقيقة المعبود، لما انصرفوا إلى عبادة غير الله، ولكنه سبحانه تركهم إلى عقولهم، فإن أعملوها أوصلتهم إلى ما وصل إليه إبراهيم5، وإن أهملوها فإن هم كالأنعام بل هم أضل.
وفي الآيات التالية اعتمد، عليه السلام، عدّة محاور عقلية في خطابه لقومه، من شأنها أن تهدم اعتقادهم بإلوهية هذه التماثيل، ومن ثمّ تقودهم إلى الإله الحق.
ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﮊ
الوثن: هو الصنم، قال ابن الأثير: الوثن كل ماله جثّة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة[22]
أي: إنكم تعبدون أشياء صنعتموها بأيديكم، فجعلتموها آلهةً لكم، وهي لا تملك من أمرها شيئاً.
ﮋ ﭭ ﭮﮊ
تخلقون: تصنعون، هكذا أوَّلها المفسرون، لإيمانهم أن معنى الخلق لا يكون إلا بيد الله تعالى.
إفكاً : كذباً .
والكذب هو كل ما يُقال على غير وجه الحق. ولأن ّ الخلق هو الإيجاد من عدم، كان ادعاء هؤلاء بأن تلك الأصنام آلهة خلقاً، من باب أنهم أو وجدوه من غير أصْل ينشأ عنه. لذلك، فهو إفك، أي كذب، ليس له من الواقع ما يسنده، أو يحفظ بقاءه . فهذه الأصنام أنتم من صنعها، وأنتم من أعطاها صفة الإله.
ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﮊ
إن هذه الأصنام التي لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً، كيف تملك لكم ضرّاً أو نفعاً ؟ وقد استند 5 في هذه الحقيقة على ما يجده القوم في نفوسهم وفي واقعهم، إذ لا تجد أحداً منهم يقول: إن الصنم الذي كان يعبده، وفّره له رزقاً أراده، ولذلك:
ﮋ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﮊ
اطلبوه منه سبحانه، لأن الرزق كله في يده، فهو { الرزاق } ولأحد سواه
ﮋ ﭾ ﮊ
أي: ليكن طلبكم للرزق من الله تعالى مقروناً بعبادته والإخلاص له في الاعتقاد. ويشير 5 من خلال اقتران هذه الأفعال { اتبعوا، اعبدوا، اشكروا } إلى أنها مسارات متصل بعضها ببعض، والإخلال بواحد منها من شأنه الإخلال بالآخرين.
فابتغاء الرزق لا يتيسّر إلا بالعبادة، والرزق يقتضي من العبد أن ربه، وشكر الله تعالى سبيل إلى الزيادة، قال تعالى:
ﭧ ﭨ ﮋ ﭰ ﭱ ﭲﮊ إبراهيم: ٧
وعلاقة العبد المؤمن بربه غير علاقة الكافر، لأن الله تعالى يرزق الكافر في الدنيا رزقاً واسعاً حتى تكون الحجة عليه أبلغ، ومن ثمّ يكون مستحقاً لأشدّ العذاب. أمّا المؤمن، فإن الله تعالى يجعل للرزق معه منهجاً آخر، ليحقق له غايتين، الأولى: أن يجعله أكثر قرباً إلى الإيمان والتقوى والصلة بالله تعالى، فكانت صلاة الاستسقاء مجلبة للغيث النافع، وكانت صلة الرحم سبباً لاتساع الرزق وطول الأثر... وغير ذلك . والثانية: أن رزق الدنيا لا يساوي عند الله شيئاً، فالرزق الحقيقي الذي يستحق الطلب، هو أعدّه الله تعالى لعباده المؤمنين في الجنّة، مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
ﮋ ﮂ ﮃ ﮊ
الملاحظ أن هذه الجملة وردت كثيراً في كتاب الله تعالى بنفس الصيغة، وبصيغ أخرى مقاربة لها وكلها جاءت مسبوقة بحرف العطف، والذي كان في الغالب حرف الواو. ولكنها جاءت في هذا الموضع من غير واو، ولا أظن أبداً أن الأمر جاء سهواً ممن كتب، أو خلواً من مراد لأراده إبراهيم5
ولنا أن نقتبس من أساليب اللغة ما يُغير لنا ذلك:
في أسلوب يُسمى أسلوب التخدير، يُحذف الفعل والفاعل، ويذكر فقط المفعول به. ولأن اللغة ظاهرة إنسانية مرتبط بأحوال الإنسان. فإن ظواهرها ترجمة لهذه الأحوال، فكان الاكتفاء بالمفعول به في أسلوب التحذير فاتحاً عن أنّ الموقف أسرع مما تحتمله الجملة بفعلها وفاعلها ومفعولها، فكانت السرعة في التحذير صدفاًُ مقصوداً، لتجنب سرعة وقوع الخطر القادم.
ولذلك، فإنني أجد في الاستغناء عن حرف العطف في قوله { إليه ترجعون }، وجعلها متصلة بما قبلها، إشارة من أبي الأنبياء إلى أن الرجوع إلى الله تعالى سريع إلى درجة أنه جاء متزامناً مع الفترة المتيسرة للإنسان على هذه الأرض،
ﭧ ﭨ ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮊالمؤمنون: ١١٢ – ١١٤
ﮋ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ
أي: وإن تكذبوني، فلن تضرّوني بتكذيبكم، فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، فما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم العذاب بسبب تكذيبهم. وما على الرسول إلا أن يبلّغ ما أمر به، وما عليه أن يُصدَّق ولا يكذَّب[23]
يقول أبو الأنبياء لقومه: فإن تكذبوني، فاعلموا أنكم لستم أول من يكذب رسوله، فقد سبقتكم أمم إلى تكذيب رسلها، وكأنه بذلك القول يتوجَّه إلى أمرين:
1- لستم بدعاً من الأمم، فقد كذبت أقوام من قبلكم فأهلكهم الله، فإياكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
2- وإنه ليس أول من اْبتُلي بالتكذيب، فقد سبق أنبياء كرام، كذبتهم أقوامهم . وفي ذلك تعزيةٌ له
عليه السلام فماذا كان جواب قومه. ؟
ﭧ ﭨ ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﮊالعنكبوت: ٢٤
ولكننا نجد قبل هذا الرد عدداً من الآيات، اختلف المفسرون في موقعها من الحوار بين إبراهيم 5 ، وبين قومه، وهذه الآيات هي:
ﮋ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﮊ
قال النسفي في تفسيره :
وهذه الآيات محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم5 لقومه، والمراد بالأمم قبله قوم شيت وإدريس ونوح وغيرهم.
أو أنها وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش، بين أول قصة إبراهيم وآخرها، فإن قلت: إن الجُمَل الاعتراضية لا بد لها من اتّصال بما وقعت معترضة فيه . قلت : نعم، وبيانه أن إيراد قصة إبراهيم5 ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون مسلاة له بأن أباه إبراهيم5 كان مبتلي بنحو ما اْبُتلي به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان [24]
الملاحظات
1- إن البيان القرآني أرقى وأسمى بيان عرفه الإنسان، ومن شأن التسليم بذلك أن يقودنا إلى نسق في هذا الجزء من الآيات يسمو بالدلالة إلى منتهاها، بعيداً عن قاعدة الجمل الاعتراضيّة التي ورد ذكرها في تفسير النسفي، والتي حاول من خلالها أن يبحث عن علاقةٍ ما بين الآيات المعترضة والآيات السابقة لها واللاحقة.
2- ثم إن بين محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم 5 من القواسم المشتركة، ما يجعلها نسيجاً واحداً، مثل : قال تعالى:
أ- ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﮊ آل عمران: ٦٨
فأولى الناس بإبراهيم5 محمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه من قبل فكانوا على ملّته، والذين اتبعوا لا حقاً فكانوا على ملّته التي هي ملّة، رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب- ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊآل عمران: ٦٧
والحنيفيّة والإسلام هي التي أرسل لها صلى الله عليه وسلم :
{ جئت بالحنيفية دين إبراهيم }[25]
وهي في ذات الوقت ملّة إبراهيم 5، والتي أرسل بها من قبلُ .
ج- ﭧ ﭨ ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊالبقرة: ١٣٥
فأمه محمد صلى الله عليه وسلم أمرت بنبذ ملّة اليهود وملّة النصارى، لأن الهداية ليست فيها، بل هي في ملّة إبراهيم 5، والتي هي ملّة الإسلام التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم.
د- وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فيه أوصاف عددٍ من الأنبياء، قال في وصف إبراهيم5 :
{ أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم } رواه مسلم وأحمد
ويقصد بـ { صاحبكم } شخصه الطاهر صلى الله عليه وسلم
وتجدون في مكان لاحق من هذا الكتاب تفصيلاً أكبر لهذه القواسم المشتركة.
أي أن هذه القواسم تقودنا إلى القول بأن تلك الآيات الواردة في ثنايا قصة إبراهيم 5 ليست لواحد منهما دون الآخر، بل لها كليهما إشارة منه سبحانه إلى اتحادها في ذات رسالية واحدة، فكان صلى الله عليه وسلم معنياً بكل شأن رسالي يحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تلك الآيات في حال نسبة القول فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ذاتها مضمون ما ألقاه إبراهيم5 إلى قومه، والعكس صحيح.
ﮋ ﮔ ﮕ ﮊ
استفهام خرج عن معناه الحقيقي، ليصبح استفهاماً تقريرياً، أي أنهم رأوا وعلموا.
ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮊ
يبدئ : فعل مضارع، ماضيه { أَبْدَأ } : أي جعل للأمر بداية .
{ ثم يعيده } أي يعيد الخلق مرة تلو أخرى.
إن ابتداء الجملة بنسق الاستفهام التقريري يقرّ أنهم قد رأوا ابتداء الخلق ورأوا إعادته، لذلك كان من المستحيل أن يكون المقصود بداية خلق السموات والأرض وهيئة خلقها بعد يوم القيامة، لقوله تعالى:
ﭧ ﭨ ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊالكهف: ٥١
فما الذي سهده القوم من ابتداء الخلق وإعادته ؟
إنه ما يراه القوم في حياتهم المتيّسرة للمعاينة، فالطفل، مثلاً، جعل الله تعالى له بداية، فكانت بدايته النطفة، ومن ثمّ يتطوّر خلقه شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح إنساناً سوَّياً مكتمل الأعضاء والأطراف، والشجرة الكبيرة تكون بدايتها بذرة صغيرة، تنفلق عن جذر وساق، يكبران إلى أن تصبح شجرة عملاقة...
فذلك هو المقصود لقوله { يُبدئ ويعيد } وأمّا إعادته التي يراها الخلق، فالمقصود بها أن الخلق الذي يتيسّر للإنسان الإطلاع عليه في الأرض، والذي ذكرنا له شاهدين قبل قليل، ليس خلقاً محصوراً في المرّة الواحدة، بل هو خلق متكرر إلى يوم القيامة، فكان تكرره هو عين إعادته
ومما يدعم ذلك التأويل أن الله تعالى ذكر الفعل { يُبدئ } في صيغة المضارع الذي يفيد أن الفعل متجدد ومستمر. ولا يجوز أن ننسب ذلك إلى بداية خلق السموات، لأن البداية كانت واحدة، انطلقت وما زالت مستمرة إلى الآن، لذلك قال جل شأنه في الآية التالية { كيف بدأ الخلق } .
وليس هناك تجدد واستمرار في إعطاء البداية إلا في إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي على هذه الأرض.
ﮋ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ
أي : ذلك الذي ترونه من تكاثر الكائنات الحيَّة، على جلالة عظمته، ليس إلا أمرأً هيّناً في نطاق القدرة الإلهيّة .
ﮋ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﮊ
{ قل } يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم، فتقديره: وأوحينا إليه أن قل...
ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮊ
أمر منه سبحانه، جاء على لسان نبيِّه، يدعو الناس إلى أن يسيروا في الأرض، وقال { في الأرض } ولم يقل : { على الأرض }، لأنّ المراد هو الحركة الإدراكية الأسرار المخلوقات، لا مجرّد النظر السطحي إليها.
ثم ذكر الغرض من تلك الحركة الإدراكية في قوله:
ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮊ
إن المقارنة بين هذه الكلمات في هذا الموضع، وقوله تعالى في الآية السابقة { أَوَلَمُ يَرَوَا كَيْفَ يُبْدئ الله اْلَخْلقَ } شأنه أن يقودنا إلى قدر من كشف أسرار الدلالة.
الآية الأولى الآية الثانية
يروا انظروا
كيف كيف
يُبْدئ بدأ
أ- ففي الأولى استخدام الفعل { يروا } لأن الرؤية قد تكون بصريه وقد تكون قلبية، لذلك فهي أكثر ثباتاً ويقيناًُ لاشتمالها على البصر والعقل.
أما النظر فهو حسنّ العين، وذلك الحسّ قد يُخْدع، وقد يتوهّم ، مثلما حدث للناس من أثرِ سحرِ سحرةِ فرعون، لذلك كان النظر في بداية خلق السموات والأرض لا يحمل من اليقين ما تحمله كلمة رأي، لأنه غيب لم يشهده الإنسان، فكان القول نية عرضة للأخذ والردّ من خلال ما يجده الإنسان في الحياة من مؤشرات على ذلك
ب- أما فعل الابتداء فكان في الأولى بالفعل { يبدئ }، والذي قلنا فيه، إنه يعني إعطاء البداية للمخلوق في الظهور إلى الحياة، أما { بدأ } فإنه يشير إلى أنّ الابتداء كان قبل خلق الخلق، وكان البارئ هو الله تعالى، فبدأ خلق السموات والأرض من عدم
ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮊ
أي: البعث
وفي ذلك إشارة إلى أن قوله تعالى { كيف بدأ الخلق } يعني به خلق السموات والأرض، وبعد فناء المخلوقات جميعاً
ﭧ ﭨ ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮊ الرحمن: ٢٩
يشرع الله تعالى في النشأة الآخرة، على نفس مسار النَّشأة الأولى، ولكن بمواصفات جديدة وفائقة.
ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﮊ
في الآية السابقة { إن ذلك على الله يسير } إشارة إلى أن ما يراه البشر من انبثاق الأحياء على الأرض أمرٌ هيِّن ويسير في ظلِّ استعظامهم لما يرونه من مظاهر الحياة، أمَّا النشأة الآخرة فأمر غيبيّ، لا يدرك الإنسان منه شيئاً، فلا وجه للإيمان به سوى الإيمان بأن الله على كل شيءٍ قدير
ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﮊ
ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﮊ عدلاً وحقاً ﮋ ﯝ ﯞ ﯟﮊ فضلاً ومنّة، فلا يعذب أحداً إلا بما ارتكب من ذنوب، وفي ذات الوقت يرحم من يشاء، حتى ولو جاء بقراب الأرض خطاياً
ولو أن أحداً قال: إذا قدِّم قوله تعالى { وإليه تقلبون } على ما قبلها لكان أنسب، لأن العذاب والرحمة يأتيان بعد الرجوع إليه سبحانه، لقلنا ردَّاً على ذلك : إن بعض المفسرين نظروا إلى هذه الدلالة، فاضطروا إلى أن يقصروا العذاب والرحمة على ما يجده الإنسان في الحياة الدنيا.
ولكننا إذا نظرنا إلى النص من زاوية أخرى لوجدنا أنه لا يحتاج إلى تقديم أو تأخير ولا إلى جعل الرحمة والعذاب في الدنيا دون الآخرة. فقد قال تعالى في الآية إنه على كل شيء قدير به أن ذكر أنه ينشئ النشأة الآخرة، ولكن هذا لا يعني أن قدرته جل شأنه تتجلى فقط في النشأة الآخرة، بل وأيضاً تتجلى في أنه يعذب ويرحم من يشاء في الدنيا والآخرة، وإنه إليه تقلبون، أي أن انقلابكم إليه قانون ثابت لا يستطيع أحد من الخلق أن يخرج عن إطاره، ولا أن يُعْجز الله تعالى عن تحقيقه، أي أن الانقلاب ذُكِر من باب سرّد الحقائق، ولا من باب العلاقة الترتيبية .
ﮋ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﮊ
أعجزه: أي جعله عاجزاً عن أن ينال ما يريد، وفي هذه الكلمات بيان وتفصيل لقوله قبل قليل 0 { وإليه تقلبون } منهما علا الإنسان، ومهما نال من أسباب القدرة، فإنه لن يستطيع الخلاص من قانون الانقلاب إلى الله تعالى، لأن الله على كل شيء قدير. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: { لا ملجأ منك إلا إليك }
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﮊ
فإذا كنتم لن تعجزوا الله تعالى إن أرادكم لأمر لا تريدونه، فهل تستطيعون أن تعجزوه باللجوء إلى وليٍّ أو نصير ؟! فكُلّ وليٍّ وكل نصير، مهما علا وارتفع، لا يعدو كونه عبداً من عباد الله، إن شاء رحمه، وإن شاء عذّبه.
ﮋ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﮊ
ﮋ ﯹ ﯺ ﮊ رسالاته.
ﮋ ﯻ ﮊ بالبعث واليوم الآخر .
ﮋ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﮊ
اليأس من الشيء : انقضاء الأمل في الحصول عليه . قال تعالى على لسان يعقوب ، وهو يخاطب نبيه :
ﭧ ﭨ ﮋ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﮊ يوسف: ٨٧
وهذا يعني أن من يؤمن بالله واليوم الآخر، ستناله رحمة الله تعالى يوم القيامة.
ﮋ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﮊ
أي أن العذاب يوم القيامة سيكون لمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر.
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﮊ
فما كان جواب قوم إبراهيم5 بعد كل هذا الخطاب الذي يفتح للعقول أبواباً ترى من خلالها حقائق الخلق والوجود، إلا أن قالوا لبعضهم اقتلوه أو حرقوه.
لم يستطع القوم مجاراة إبراهيم5 في الحجة والمنطق، فلجأوا إلى القوّة، ليضمنوا انتصارهم عليه، فقالوا ( اقتلوه أو حرّقوه ) والنتيجة في الحالتين واحدة، وهي موت إبراهيم5، ولكنهم اختاروا الحرق لما في الحرق من عذاب ومعاناة، وأرادوها له 5، تعبيراً عن مدى ما يحملونه من بغض له ولدعوته، وغضب عليه لتحطيمه آلهتهم.
ﮋ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﮊ بقوله للنار
ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ الأنبياء: ٦٩
ﮋ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﮊ
أُكَّدت الجملة بـ{ إن ، واللام } إشارة إلى أن آية نجاته من النار كانت آية عظيمة، ومعجزة باهرة، لا يملك العقل معها إلا الإيمان بما جاء به صاحب هذه المعجزة. ولكنهم غلبت عليهم الشقاوة، وهيمن عليهم الشيطان، فأغمضوا عيونهم، وأغلقوا قلوبهم أمام ما تستدعيه هذه المعجزة من إيمان .
ﮋ ﭤ ﭥ ﮊ
لم يقل ( مؤمنون ) ، لأن الاسم يفيد الثبات على حالة واحدة، فكان التعبير بالفعل إشارة إلى أن هذه المعجزة من شأنها أن تزيد من قدر الإيمان في قلوب الذين آمنوا، وأن الإيمان لا يأخذ درجة واحدة في قلوب المؤمنين، بل يتفاوت من قلب إلى آخر زيادة ونقصاناً، وهذا هو شأن التعبير بالفعل المضارع، أن يفيد التجدد والاستمرار، بما فيهما من دلالة التردّد بين الضعف والقوة.
ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﮊ
أي: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها، واتقاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب، ذلك سبب تحابهم[26] وليس لأنكم رأيتم منها ما يشير إلى أنها لكم ضراً أو نفعاً
ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﮊ
يوم القيامة عندما تصبح الحقيقة أعظم من أن ينكرها منكر، ويرى الكافرون حقيقة ما كانوا يعبدون، وحقيقة ما كانوا ينكرون يكفر بعضهم ببعض...
ﮋ ﭺ ﭻ ﭼ ﮊ
فهاهم الأتباع يلعنون المتبوعين يوم القيامة بعد أن كانوا يعبدونهم من دون الله في الحياة الدنيا.
ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮊ
مأوى التابعين والمتبوعين جميعاً جهنم، وبئس القرار، ولن يجدوا ساعتئذٍ ناصراً ينصرهم، فيرد عنهم عذاب النار.
والمتتبع لمسار الآيات يجد أنهم أرادوا حرقه بالنار، ونفذوا ما يريدون، ولكن الله تعالى نجّاة من النار، فخرج عليهم وهو أكثر إصراراً على الدعوة إلى الله، فنلاحظ أنه بعد نجاته من النار، نادى فيهم قائلاً :
ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﮊ
وقوله هذا جاء مقروناً بالمعجزة التي رآها القوم، ومع ذلك فقد أروا على كفرهم، ولم يؤمن له إلا ابن أخيه لوط...
ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮊ
وهو ابن أخيه، واسمه لوط بن هاران بن آزر[27]
ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮊ
مهاجر { كوثى } وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثمّ منها إلى فلسطين، وكان معه في هجرته لوط وسارة[28]
لقد كانت هجرته5 إلى الله، ومن أجل إعلاء كلمته سبحانه، وكذلك كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وهو القائل:
( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ابن ماجه وأبو داود.
ﮋ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ
جاءت متجانسةً مع قوله ( إني مهاجرٌ إلى ربي ) إذ أن إنجاز هذه الهجرة وتحقيقه المراد منها لا تيمّ إلا من خلال إرادته سبحانه، التي تسير في مسار ( العزيز الحكيم ) فهو عزيز، يفعل ما يشاء، ولا أحد يستطيع ردّ فعله، وهو جل شأنه إذ يفعل الفعل، إنما يفعله في إطار حكمته، التي تجعل الأمور تسير على أفضل تدبير وأحسن تقدير,.
الدعوة إلى الله (7)الصافات: الآيات 83 – 98
ﭧ ﭨ ﮋ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﮊ ا لصافات: ٨٣ – ٩٨
ﮋ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﮊ
الهاء في { شيعته } تعود على نوح 5، الذي ورد ذكره في السورة قبل ذكر إبراهيم 5 . وشيعة المرء : هم الذين يتابعونه على الأمر الذي هو عليه.
والصفة التي تحقق ن خلالها لا إبراهيم5 أن يكون من شيعة نوح5هي:
ﮋ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ
ﮋ ﭶ ﭷ ﮊ تعني الإقبال عليه سبحانه بالتوحيد، والخضوع لأمره .
ﮋ ﭸ ﭹ ﮊ أي أن الطريق الذي أوصده إلى معرفة ربه، هو سلامة قلبه من الآفات الاعتياديّة. والقلب السليم حكراً على الأنبياء، بل هو شأنه يتعلق به جميع المؤمنين،
ﭧ ﭨ ﮋ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﮊالشعراء: ٨٨ – ٨٩
{ الاوان في الجسد مضغة إذا صلحتْ صَلُحَ الجسد كلُّه وإذا فَسَدَتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب } رواه مسلم
فكان من بين مظاهر سلامة قلبه5 عدم إيمانه أو امتناعه بعبادة تلك التماثيل
ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊالصافات: ٨٥
ﮋ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ كقوله 5 في موضع آخر.
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﮊالأنبياء: ٥٢
وكلٌّ منهما سؤال يستدرج بهما5 قومه للوقوع في أسر الخطاب العقلي، وذكر أباه قبل قومه، إشارة إلى أنه أكثر حرصاً عليه ممن سواه. أو لأنه القائم على خدمة تلك الأصنام، كما ورد في تفسير كلمة { آزر } .
ﮋ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮊ
{ الإفك }: الكذب، بل أسوأ الكذب.
ونصبت { إفكاً } على المفعول به للفعل { تريدون }، ولكن القوم لم يكونوا يريدون كذباً، ولو رأوا في عبادة تلك التماثيل كذباً لما عبدوها، ولكن إبراهيم 5 كان يعلم علم اليقين بأن عبادة هذه الأصنام إفك، وقدَّم { إفْكاً } وجعلها مفعولاً به، وجعل { آلهة } بدلاً منها، إشارة من 5 إلى أن الفكرة التي يعتقدونها هي التي وقع عليها الفعل { يريدون }، والفكرة هذه أشدّ خطراً وأبلغ أثراً في حياة القوم من تلك التماثيل والتي تحمل من وزر عبادة القوم لها شيئاً
إن القوم إذا أ رادو عبادة الأصنام، فإنما يمارسون إفكاً، ولم يجعل 5 كلمة { آلهة } مفعولاً به، لأن فعلهم الذي يفعلونه، لا يحمل في طياته أدنى قدر من الإلوهية، لأنه كذب صِْرف، فقدّم { إفكاً } إشارة إلى أن ما هم فيه كذب محض، لا يحمل من فكرة الإلوهية الصحيحة شيئاً
ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮊ
أي: ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، فهو تحذير[29]
فإذا كان ظنكم الكاذب قد جعلكم ترون في هذه التماثيل آلهة تخضعون لها، وتجعلون مصائركم وأقداركم معلقة بها، فما ظنكم برب العالمين ؟
وهو سؤال يحمل في طّيات توبيخاً لهم وتهديداً، توبيخاً لأنهم تركوا عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي خلقهم وسخّر لهم هذه الحياة، وتهديداً، من حيث أن الله تعالى الذي يملك أقدارهم ومصائرهم لن يرضى أن يكون هو من خلق. من رزق، ثم يعبد سواه، مما لا يملك ضرّاً ولا نفعاً.
ﮋ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ
اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فكان ممّا قيل :
نظر في النجوم، رامياً ببصره في السماء، متنكراً في نفسه كيف يحتال أو أراهم أنه ينظر في النجوم، لأنهم يمارسون هذا العلم، فأوهمهم أنه استدل بأمارة فيها على أنه سيكون سقيماً[30]
وفي اللغة : النظر إلى الشيء غير النظر فيه، والنجوم إذا نظر إليها الإنسان نظراً سريعاً، خالياً من التأمّل، فإنه يكون قد نظر إليها، وأما إذا أرفق النظر بالتأمل والتمعن، فإنه يكون قد نظر فيها، لأن { في } تفيد الظرفية. وفي ذلك إشارة أكيدة إلى أن علم النجوم كان مستخدماً لديهم، وقد أشار إلى ذلك بعض السلف الصالح في ثنايا كتب التأويل.
ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ
فكانت نتيجة نظره في النجوم أن قال لهم { إني سقيم }، مما كان منهم إلا أن :
ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮊ
إذا اقترن التولي مع الإدبار، وأُسْند إلى شخص، فذلك يعني أنه انصرف عن الشيء خوفاً أو بغضاً، فكان تولي القوم عن إبراهيم5 لقوله لهم { إني سقيم } ولا منطق لحدوث التولي في هذه الحالة إلا إذا كان السقم { المرض } معدياً ومهلكاً، يخشاه الإنسان على نفسه . ولذلك جاء في كتب التفسير { أن السقم الذي اشتكاه هو الطاعون، وكان من أغلب الأمراض وقوعاً فيهم، وكانوا يخافون العدوى، فتفرّقوا عنه، هرباً منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد} [31]
ﮋ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊ
بعد أن تولّي القوم عنه مدبرين، مال إلى تلك الأصنام، فقال: { ألا تأكلون }، وهو يعلم أنها لا تأكل، إنما كان سؤاله لها سؤال تهكّم واحتقار، وعند مالم تردّ عليه، واصل تهكمه قائلاً:
ﮋ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮊ
ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮊ
المراوغة: هي انحراف في خفاء . قال الشاعر
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
من ينظر إلى حال إبراهيم5 في تلك اللحظات يدرك أنه لا بد له، لكي يُحْكم كيده، أن لا يُشْعر القوم بمراده، وأن ينفّذ ما يريد قبل أن ينتبه إليه القوم. فمال إلى الأصنام خفية، ثمّ شرع في تحطيمها واحداً تلو الآخر، في ظل حرصه الشديد على عدم استفحال صوت التحطيم...
وأما قوله { باليمين } فقد اخْتُلف في تأويلها:
ضرباً شديداً بالقوة، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما.
أو بالقوة والمتانة.
أو بسبب القسم الذي سبق منه، وهو قوله { وتالله لأكيدن أصنامكم }الأنبياء
ولاختلاف بين هذه التأويلات، لأنها، جميعاً، تدور في إطار واحد، فإن الغضب عندما يبلغ لدى الإنسان مبلغاً كبيراً، فإنه يحتاج لكي يفرغ هذه الشحنة الكبيرة إل أقصى ما يملكه من قوّة، فكان في ذكر يمين إبراهيم5 إشارة إلى مدى نقمته على تلك الأصنام التي جعلها قومه آلهة يعبدونها، وعلى قومه الذين لم يسمعوا له قولاً، ولم يقبلوا منه حجة.
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮊ
يزفّون : يسرعون، من الزفيف، وهو الإسراع .
قلنا قبل قليل أنه 5 كان حريصاً على عدم استفحال صوت التحطيم، حتى لا ينتبه القوم إلى ما يفعله بأصنامهم. وقد ورد في سورة الأنبياء مسار، يذكر أنّ القوم لم يجدوا إبراهيم5 في المعبد بدليل قولهم { فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يرشدون} ولذلك، فإن الضمير في قوله {إليه} يختزل ما تمّ تفصيله في سورة الأنبياء
ﮋ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ
قبل هذا القول كان قول آخر، ورد ذكره في سورة الأنبياء وهو استفهام ينطوي على التعجب والإنكار ن إقبال القوم على الخضوع والتذلّل لتماثيل صنعوها بأيديهم. وفي ذلك تسفيه لعقولهم التي قبلت أن تعبد ما لا يملك ضراً ولا نفعاً، فكيف يكون إلهاً قادراً، ذاك الذي يصنعه القوم بأيديهم ؟
ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﮊ
جملة حالية، يجعلها السياق متصلة بالآية السابقة:
كيف تعبدون مالم يخلق فيكم شيئاً، بل أنتم خلقتموه، وتذرون عبادة الله الذي خلقكم، خلق تلك الحجارة التي نحتموها بأيديكم.
ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
إن قوماً قد جعلوا تماثيل صنعوها بأيديهم آلهة يعبدونها، من أنهم أن يغضبوا أشد الغضب على من أهان آلهتهم، وهذا الغضب الشديد سيظهر أثره فيما أراده القوم لإبراهيم5 من جزاء :
ﮋ ﯝ ﮊ
فيه إشارة إلى أن القوم لا يريدون لإبراهيم 5 أدنى فرصة للنجاة أو الهروب من حرّ النار، فأرادوا أن يبنوا له بنياناً مغلقاً من جميع الجهات، سيدّ على إبراهيم أي طريق للنجاة.
وماداموا حريصين على ضمان احتراقه، فإن الحطب الذي سيجمعونه، سيكون من أكثر الأنواع اشتعالاً، وأطولها بقاءً . وقد أشرنا في تأويل قوله تعالى { اقتلوه أو حرّقوه } إلى ما في التضعيف من دلالة على غضب القوم الشديد.
ﮋ ﯠ ﮊ
فهو كل نار عظيمة في مهواة ولا تكون المهواة إلا حيث يكون المكان العالي، فقد كان البناء عالياً، وكانت النار عظيمة، لا يستطيع الطير أن يطير في السماء القريبة
ﮋ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﮊ
أراد القوم أن يكيدوا لإبراهيم 5 ولا يلجأ الإنسان إلى الكيد إلا في حال ضعف حجته، وقد أدرك القوم أن حجتهم ضعيفة أمام منطق إبراهيم 5 ، فلجأوا إلى الكيد، وهو أن يقتلوه ويتخلصوا من دعوته بحجة ردّ الاعتبار إلى آلهتهم. وفي ذات الوقت كان إبراهيم 5 قد سبقهم في تنفيذ كيده، ولكنه كيد في ذات الله تعالى، ومن أجل هداية القوم إلى الصراط المستقيم.
ﮋ ﯥ ﯦ ﮊ
لا يتّصف الشيء بأنه { أسفل } إلا بالنظر إلى شيء آخر، فكان القوم هم الأسفلين، وإبراهيم 5 هو الأعلى، بانتصاره على كيد القوم، ويدعم هذا القول ما جاء في قصة سيدنا موسى 5، الذي واجه سحرة فرعون، وعندما خيِّل إليه من سحرهم أنها تسعى، خشي أن يكون هو المهزوم فقال له تعالى:
ﮋ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﮊ طه: ٦٨
وكذلك هو الشأن مع إبراهيم 5، جعله الله تعالى هو الأعلى إذ قال للنار{ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } فخرج على قومه بعد خمود النار سليماً معافى.
ونفس الآية جاءت في سورة الأنبياء، ولكن مع اختلاف بسيط وهو قوله { الأخسرين } بدلاً من { الأسفلين } ، ولا تعارض بينهما، لأن كل خاسر في معركة مع عدوه كان الأسفل، ليكون المنتصر هو الأعلى.
فالنار لم تحرق إبراهيم 5، ولم تحرق دعوته، بل أحرقت ادعاءاتهم الكاذبة، وأحرقت الانتصار لآلهتهم المزّيفة.
الباب الثاني
الهجرة
الهِجْرَة
وردت الإشارة إلى هجرته 5 بألفاظ مختلفة
ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ
ﮋ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﮊ
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﮊ
ﮋ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊ
قوله { مهاجر } جاء من الهَجْر، وهو الترك، ولكنه ليس تركاًَ خَلْواً من الأحاسيس، بل تر مترافق مع البغض لذلك المتروك، فكان ترك إبراهيم 5 لقومه وديارهم، بغضاًَ لأحوالهم وإصرارهم على الكفر والشرك.
وأما قوله { ذاهب } فلا يحمل ما حملته { مهاجر }، لأن الذهاب يكون من أجل أمور عديدة، خيِّرة أو غير ذلك، ثم أن الذهاب إلى الشيء يعني أنك تريد قضاء حاجة من ذهابك إليه، فكان ذهابه 5إلى ربه، وكانت حاجته التي يريد قضاءها هي قوله : { سيهدين }، فجاء التعبير بالسين للدلالة على قرب الهداية وتحققها الأكيد، لأنها بيد رب العالمين، الذي يفعل ما يريد، فلا أحد يستطيع ردّ الهداية التي يقدّرها رب العالمين لمن يريدها.
ثم إن الهداية قد تأخذ دلالات عديدة، وفقاً لكل سياق ترد فيه، وهي هنا لا تغني الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى وربوبيته، لأنه 5، كان قد وصل إليها، فلا مبرر لأن تكون هي مراده، وهي كامنة في قلبه، لذلك فإن الهداية التي كان يقصدها من ذهابه إلى ربه، هي الهداية إلى الموطن الذي قدِّر لرسالته ودعوته أن تُبْذر وتنمو فيه، بعد أن تبين له أن موطنه وأهله قد قطعوا كل صلة بينهم وبين دعوته، إلى غير رجعه .وذهابه إلى ربه، يعني به ذهابه إلى حيث أراد وأمر.
وأما قوله ﮋ ﯣ ﮊ فيعني به: أنه يتخذ عازلاً يعزله عنهم وعمّا يعبدون، فكان ذلك العازل الذي اتخذه هو تلك المسافات الشائعة التي تفصل بين بابل وأرض فلسطين، والدليل على ذلك قوله تعالى في نفس الآية: قال تعالى
ﮋ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﮊ مريم: ٤٩
وقوله ﮋ ﮨ ﮊ يعني به أن خروجه من بين قومه كان نجاةً له، إشارة إلى أن القوم كانوا يريدون به شراً، فنجاه الله منه، ويسر له الذهاب إلى الأرض المقدسة.
من هاجر معه؟
هاجرت معه زوجه سارة، التي رافقته إلى آخر العمر، وابن أخيه لوط، قال تعالى
ﮋ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊالأنبياء: ٧١
دلالات الهجرة
إن الانصراف عن الدعوة إلى الله يأساً أو قصوراً ليس مَّما يتصف به أنبياء الله، فالالتزام بالدعوة يكون بأمر من الله تعالى، والانصراف عنها إلى وجهة أخرى لا يكون إلا بأمر منه سبحانه، ولو كان بغير ذلك لا ستحق النبي العقاب والجزاء، ومن ذلك ما ورد من سيرة سيدنا يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام :
ﮋ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮊالأنبياء: ٨٧
فلم يكن انصراف إبراهيم 5 عن الدعوة في قومه إلا بأمر من الله تعالى
قوله ﮋ ﮨ ﮊ يدل على أن القوم كانوا يريدون به شرّاً، لأن
النجاة لا تكون إلا من خطر محدق. وهو في ذلك حالة كحال محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أمره ربّه بالهجرة، في ظل إرادة القوم القضاء عليه:
ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊالأنفال: ٣٠
فكانت معجزة الهجرة أن خرج رسول rأمام أعينهم، فلم يروه، ثم وصلوا إلى الغار الذي اختبأ فيه مع صاحبه، فردهم عنه خيط العنكبوت وعشّ الحمامة
ومن خلال هذا المسار نستطيع القول أن هجرة إبراهيم5 وتركه لقومه تحقّق من خلال معجزات حجبته وحجبت خروجه من بينهم في ظل طلبهم الشديد له، لقتله أو جسده فكانت نجاته من خلال قدرة الله تعالى التي تجلّت في تلك المعجزات، التي لم يرد لها تفصيل لها تفصيل في كتاب الله ولا في سنة رسوله r
ومثلما كانت هجرة رسول الله r انتصار للدعوة، وتأسيساً لأركان الدين،
كانت هجرة إبراهيم 5، حيث تمّ بناء البيت الحرام على يديه، وألقي بذرة رسول الله rفي شخص ولده إسماعيل، وأجرى جل شأنه من خلال مناسك الحج التي قُدِّر لها أن تبقى إلى يوم القيامة من خلال جعلها رُكناً من أركان الإسلام
رفقاء إبراهيم 5 في هجرته اثنان مؤمنان:
أ- زوجه سارة، وهي ابنة عمه
ب- ابن أخيه لوط، الذي آمن به بعد نجاته من النار.
ﮋ ﮅ ﮆ ﮇﮊ
ومن قدر الله تعالى أن يكون في صحبة محمد r عند هجرته اثنان مؤمنان :
أ- أبو بكر الصديق t
ب- عامر بن مهيرة، وقد كان مولى لأبي بكر
أما الثالث فلم يكن مؤمناً، ولم يخرج معهم مهاجراً إلى الله، بل كان دليلاً يقودهم عبر مجاهل الصحراء مقابل مالٍ يعطونه إيَّاه .
الْمَهْجَرُ
ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ الأنبياء: ٨١
يقصد به بلاد الشام، وبالتحديد: أكناف المسجد الأقصى، قال تعالى
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﮊالإسراء: ١
وقيل لهذه الأرض { مباركة } لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها، ولأنها معادن الأنبياء . والبركة: ثبوت الخير [32]
ولكننا نرى أن البركة المذكورة ليست كما قيل، لأنها لو كانت كذلك . لكانت البركة لأهلها المقيمين فيها، ليست للعالم أجمع ومن لوازم تلك الكلمات الواردة في الآية أن تكون البركة حاصلة للعالمين جميعاً سواء أكانوا مقيمين فيها أم بعيدين عنها، ولذلك تجدون أن المفسّرين ذكروا من الأحوال ما يتناسب مع كلمة { العالمين } ، فقالوا لأنها { معادن الأنبياء } والأنبياء فيهم من كان يحمل رسالة سماوية، وفي تلك الرسالة كانت البركة التي تعني النماء والزيادة في الخير، إذ من شأن اعتناقها والعمل بما فيها أن يحقق البركة، قال تعالى:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﮊالأعراف: ٩٦
وهاهي الأمم الثلاث: الإسلامية والمسيحية واليهودية تتصارع فيما بينها من أجل حيازة هذه الأرض.
ومع ذلك فإن { العالمين } ليست محصورة في هذه الأمم الثلاثة، فهناك من العالمين من هو على غير هذه الملل، وذلك لا صيغة أن يكون داخلاً في إطار تلك الكلمة، فما هي بركته التي يجدها في هذه الأرض ؟
انتبه بعض العلماء إلى ذلك أيضاً، فذكروا ما يسوِّغ حصول البركة لأهل الكتاب ولغيرهم، فقالوا:
قال أبو العالية وكعب الأحبار: ليس ماء عذب يهبط من السماء إلى الصخرة بيت المقدس، ثم يتفرّق في الأرض[33]
وقد لا يكون من السهل التسليم بهذا القول، مع احتمال كونه صحيحاًَ، وإذا وجد له مبرر يبرره. وقد يكون من شأن الاستغراق في هذه الفكرة أن ينأى نبأ عن ذكر أبينا إبراهيم، ولذلك فإني أتركه إلى موضع آخر، قائلاً:
إن البركة من الله تعالى تأخذ هيئتين:
هيئة معلومة، يشهدها الإنسان، ويدركها بعقله.
وهيئة خفية، قد لا يملك الإدراك البشري أن يطلع عليها.
وقد أخبرنا جل شأنه أنه وضع البركة في هذه الأرض للعالمين، ونحن نؤمن بقول ربنا، ومن أجل هذا الإيمان على العالمين أن يحافظوا على هذه الأرض، ويخلّصوها من كل مظاهر الشرّ والعدوان، لأن فيها حقاً لكل العالمين
هاجر { أم إسماعيل }
عن أبي هريرة t، عن النبي r ، قال :
{ إن إبراهيم لم يكذب، قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله، قوله { إني سقيم } وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } ، وبينما هو يسير في الأرض جبار من الجبابرة، نزل منزلاً، فأُتي الجبار، فقيل له: إنه قد نزل هاهنا رجل، معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال إنها أختي فلما رجع إليها قال: إن هذا سألني عنك، فقلت إنك أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك، وإنك أختي، فلا تكذبيني عنده.
فانطلق بها، فلما ذهبت[34] يتناولها أُخِذ[35]، ، فقال: ادعى الله لي، ولا أضرّك، فدعت، فأرسل[36]، فذهب يتناولها، فأُخذ مثلها أو أشد منها، فقال: ادعى الله لي، ولا أضرك، فدعت، فأرسل، ثلاث مرّات فدعى أدنى حشمه، فقال: إنك لم تأتي بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها، وأعطها هاجر .
فجاءت وإبراهيم قائم بصلي، فلما أحس بها، انصرف، فقال: مهيم ؟
فقالت : كفى الله كيد الظالم، وأخد مني هاجر } رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد
ومن خلال هذا الأثر نستفيد الدلالات الآتية:
قوله { بينما هو يسير في الأرض جبار من الجبابرة } يشير إلى أن هذه الأرض لم تكن مستقرة والهجر الذي هاجر إليه، بل كانت معبراً أو مكاناً مرّ من خلاله، طلباً لأمرٍ ما .
وقوله { جبار } يعني به حاكماًَ بلغ من السطوة والنفوذ واتساع الملك، ما جعله من الجبابرة المعدودين في الأرض.
ورد في كتاب { قصص الأنبياء } لا بن كثير .
{ ثمّ إن الخليل5 رجع من بلاد مصر إلى بلاد التيمّن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القطبية}.
قوله 5 في سارة { إنها أختي } ، كان كذبه، ولكنها لم تكن من أجل دنيا يريدها، أو بلل يبتغيه، بل كانت كما قال رسول الله r { كل ذلك في ذات الله }
فكان قوله { أني سقيم } سبيلاً له، لكي يتمكن من الكيد لتلك الأصنام التي كان قومه يعبدونها. وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } كيد منه 5 للأصنام وعابديها، عندما يرون أنفسهم أمام حقيقة أن هذه الأصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع، والذي قد يكون بدوره سبيلاً لاقتناع القوم بدعوته 5.
وبناء على ذلك، فإن قوله { إنها أختي } يجب أن تسير في نفس المسار المذكور في الكذبتين السابقتين، فكيف كان ذلك؟
أ- لقد أراد جل شأنه أن تكون أم إسماعيل 5 مصرّية، فهيّأ لذلك سبباً يجعل إبراهيم5يخرج من الأرض المقدسة، قاصداً مصر، وكان ذلك السبب هو الجدب الذي وقع في فلسطين، وفي قصة يوسف 5نجد أن الجذب الذي وقع في الأرض المقدسة، كان السبب الذي هيّأ ليوسف 5 لقاء إخوته وأبيه.
إذاً فقد ذهب إبراهيم 5 إلى مصر، وغادرها، عائداً إلى الأرض المباركة محَّملاً بالمال والأنعام، ولكن هذه الخيرات لم تكن في علم الله تعالى الهدف المباشر من رحلته، إنما هو العودة بـ{ هاجر } ، التي قدّر لها جل شأنه أن تكون أم إسماعيل5 .
ب- ولو أن إبراهيم 5قال لن سأله عن سارة { إنها زوجتي } لما انطلقت سارة إلى ذلك الجبار، لتعود ومعها هاجر وفي قوله: إنها زوجتي، رادعٌ يردع ذلك للجبار عن طلبها، إذ لا يطيب الرجل زوجة رجل آخر إلا إذا كان الأمر ظلماً وعدواناً.
وكأن إبراهيم 5 كان يعلم من ربه الغاية من هذه الرحلة، فكان قوله { إنها أختي } التزاماً بذلك التدبير الذي دبرّه رب العالمين، من أجل ، استقدام هاجر.
ج-ومن هاجر رزق الله تعالى نبيّه إبراهيم غلاماً حليماً، هو إسماعيل5 ، الذي انحدر من صلبه محمد r والعرب الذين هو منهم .
جاء في البخاري أن النبي r مّر على نفرٍ من أسلم[37] ينتضلون[38] فقال رسوله الله r
{ ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، وأنا مع بني فلان } فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله r :{ مالكم لا ترمون } ؟ فقالوا يارسول الله، نرمي وأنت معهم ؟ فقال : { أرموا وأنا معكم كلكم } رواه أحمد.
ومن الآيات العجيبة أن يكون زواج إبراهيم5 من هاجر القبطية متشابهاً مع زواج رسول الله r من ماريَّة أيضاً القبطية، فقد أهدى المقوقس حاكم مصر مارية القبطية لرسول الله r ، فأعتقها، وتزوجها مثلما فعل أبوه إبراهيم 5، وعِتْقُ هاجر من قِبَل إبراهيم 5 رأىٌ رأيتُه، أولاً لأن هذه هي أخلاق الأنبياء، ثانياً: كرامة لذلك المولود الذي سيأتيه منها، إذ ليس من اللائق أن يكون الولد المرتقب ابن أمة، وهو الذي أخبر عنه رب العالمين بأنه غلام حليم: قولوه
ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﮊالصافات: ١٠١
إذا تزوج إبراهيم 5 من هاجر القبطية، وأنجب منها ولده إسماعيل، فكان محمد r من ذريته، بل أعلى ذريته قدراً ومقاماً، وكان إبراهيم 5 عندما أنجب إسماعيل إنما أنجب محمد r .
وكذلك كان الشأن مع محمد r : تزوج من ماريَّة القبطية، فأنجب منها ولداً، فسماه إبراهيم على اسم أبيه مع ملاحظة أن رسول الله r لم يشأ له الله أن يكون له ولد من زوجاته اللائي كن بين يديه، ولكن الله تعالى حقق إرادته وحكمته في ظل إرادة أخرى، فأنجبت إبراهيم، ثمّّ قدر الله تعالى الموت صغيراً، لأن إرادة الله أن لا يكون لرسول الله r ولد يبقى من بعده، وفي ذات الوقت قدَّر له الولد لأن زوجه كانت مارية القبطية مثلما كانت هاجر قبطية، فسمى ولده منها إبراهيم مثلما سّمى إبراهيم 5 ولده محمداً من خلال إنجابه للأصل الذي أتى منه محمد، وهو إسماعيل 5
ومن عجائب ذا التماثل بين الأب إبراهيم وولده محمد عليهما الصلاة والسلام، أن الأثر لم يذكر لنا عن رسول الله r أنه تأثر بموت أحدٍ من أولاده مثلما تأثر بموت إبراهيم.
عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: لما توفِّي ابن رسول الله r -إبراهيم- بكى رسول الله r ، فقال له الُمَعزِّي – إما أبو بكر وإمّا عمر - : أنت أحق من عظّم الله حقه- قال رسول الله r : { تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب. لولا أنه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر تابع للأول لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدنا، وإنا بك لمحزونون } رواه ابن ماجه.
وكأن بكاءه r لم يكن بكاء على الولد فقط، بل على الولد وعلى ذكرى الأب العظيم إبراهيم، والتي تجسَّدت في هذا المولود، فكان حزنه على فقده على قدر محّبته لأبيه ولولده اللذين كانا يحملان اسماً واحداً، وهو { إبراهيم } .
إسماعيل 5
ﭧ ﭨ ﮋ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﮊالصافات: ٩٨ – ١٠١
قيل في كتب التفسير:
ولم يُثْبَتْ في كتاب الله تعالى أن إبراهيم 5 سأل الله تعالى ولداً فأعطاه إسحاق 5، بل ثبت أنه أعطى إسحاق من غير طلب، في ظل افتقاره هو زوجه إلى الأسباب التي تؤهلها لإنجاب الولد،
ﮋ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﮊالحجر: ٥٣ – ٥٥
بشرته الملائكة بأنه سيرزق ولداً عليماً، ولكنه استبعد ذلك لكبر سنِّه، الذي يقف عائقاً أمام ذلك. وكذلك زوجه ساره التي عجبت من هذه البشرى وهي عجوز عقيم،
ﮋ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﮊهود: ٧٢
فلم يكن إبراهيم 5 وزوجه سارة في وضع بَشَرِيّ يُسيغ لهما أن يسالا ولداً.
ولذلك كله، نقول: إن إبراهيم 5 عندما سأل الولد بقوله
ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ جاءت البشرى باستجابة الدعاء، في قوله تعالى: ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﮊ فكان هذا الغلام الحليم إسماعيل 5
أما إسحاق ويعقوب، فقد جاء في شأنهما:
ﮋ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﮊالأنبياء: ٧٢
قيل في تفسير ذلك:
ﮋ ﯲﮊ زيادة، قيل: هي ولد الولد، وقد سأل ولداً، فأُعّطيه، وأُعطي يعقوب نافلة، أي زيادة وفضلاً من غير سؤال، وهي حال من يعقوب[39]
وهذا التأويل هو الذي تدور حوله جلُّ التفاسير، ولكن الأمر، ولم يَردِ في كتاب الله تعالى أن إبراهيم 5 سأل الله ولداً فأعطاه إسحاق، لأن إسحاق 5 جاء من غير طلب، في سنّ لا تؤهله هو وزوجه لطلب الولد، حتى أنهما عَجِبا من بشرى الملائكة بأن يلدا في مثل هذه السن، ولو أنهما طلبا الولد لما استسلما للعجب من هذه البشرى، لأنّ الذي يطلب شيئاً من رب العالمين وهو لا يملك ما يؤهِّله لذلك الطلب، لن يتعجب من لاستجابة له، لأنه سيرى فيه استجابة لدعائه.
إذا فقد كان إسحاق ومن ورائه يعقوب نافلة، أي زيادة على ما طلبه إبراهيم 5، وكان طلبه ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ فكان إسماعيل 5 وأرادوا جلَّ شأنهُ أن يبالغ في عطائه له، فأعطاه إسحاق ويعقوب { نافلة ً } أي زيادة على ما ط
بناء البيت المحرَّم
حملت هاجر بإسماعيل 5، فبدأت الغيرة تدبّ في قلب ساره، فها هي تلك التي كانت جارية على وشك أن تأتي بالولد الذي طال انتظاره من قبل إبراهيم 5 ، وقد أشار r إلى تلك الغيرة بقوله:
{ أول ما اتخذ النساء المْنِطق[40] من قبل أم إسماعيل، واتخذت منطقاً، لتعفي[41] أثرها على ساره } رواه البخاري .
وكان الحديث يشير إلى أن ذهاب هاجر إلى إبراهيم 5 في خلوةٍ أمر محظور، من شأن سارة، إذا علمت به، أن تفسده.
وجاء الولد، وعظمت الغيرة في قلب سارة، ومن شأن استفحال الغيرة أن تزيد من تصرّف القادر في العاجز الضعيف.
البداية
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال:
أول ما اتخذ النساء المْنِطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً، لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعها هنالك، ووضع عندها جراباً من تمرٍ، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت:
يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟
فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقال آلله أمرك بهذا ؟
قال – نعم . قالت : إذن، لا يضيعنا
ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنيّة، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه:
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊإبراهيم: ٣٧
وجعلت أم إسماعيل تُرضع أم إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوىّ، أو قال يتلبّط[42]، فانطلقت، كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تَرَ أحداً. فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي تنظر رفعت رف درعها[43] ثم سعت سَعْي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرّات، قال ابن عباس قال النبي r { فذلك سعْي الناس بينما }، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، قالت: صَهْ. تريد نفسها، ثم تسمّعت، فسمعت أيضاًَ، فقالت : قد أَسْمَعْتَ إن كان عندك غواث[44]. فإذا هي باْلَمَلكِ عند موضع زمزم، فبحث[45] بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي r :{ يرحم الله أم إسماعيل } لوتركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً[46] قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها المْلَكَ : لا تخافوا الضيعة، فإنّ ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً عن الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّتْ بهم رفقة من { جُرْهم }[47] أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طرق كَدَاء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائر عائفاً[48] فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدور على مّاء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً[49] أو جرَّيين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن تنزل عندك ؟
فقالت: نعم. لكن لا حقَّ لكم في الماء .
قالوا: نعم.
قال ابن عباس، قال النبي r :{ فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحبّ الأنس }[50]. فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، مشبَّ العلام، تعلم العربية منهم، وأنفسهم[51] وأعجبهم حين شبّ، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم
وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، يطالع تَرِكَتَهُ فلم يجد إسماعيل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت:
نحن بشرّ، ونحن في ضيق وشدّه. فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك،، فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغيرِّ عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أَنِس شيئاً، فقال
هل جاءكم أحد ؟
قالت: نعم. جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته وسألنا كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهدٍ وشدَّة.
قال: فهل أوصاك بشيء ؟
قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غيرِّ عتبة بابك
قال : ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك. فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعدُ، فلم يَجْده، فدخل على امرأته. فسألها عنه، فقالت:
خرج يبتغي لنا
قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت:
نحن بخير وسعة. { وأثنت على الله } .
فقال: ما طعامكم ؟
قال: فما شرابكم ؟
قالت: الماء .
قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي r { ولم يكن لهم يومئذٍ حَبُّ، ولو كان لهم دعا لهم منه } ... فهتما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال: فإذا جاء زوجك، فاقرأي عليه السلام، ومُرٍيه يثبت عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل، قال:
هل أتكم من أحد ؟
قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة { وأثنت عليه } فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا بخير.
قال : فأوصاك بشيء ؟
قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.
قال : ذاك أبي ، أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ماشاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال
بإسماعيل، إن الله أمرني بأمر.
قال : فاصنع ما أمرك ربك.
قال : وتعينني ؟
قال: وأعينك .
قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً { وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها }
فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر[52] فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:
{ ربنا تقبل منا إنك أنت السَّميع العليم } رواه البخاري
دلالات البداية
هذا ما قصه رسول الله r في شأن بناء البيت ومقدماته، وبالإمكان أن نتلمس في طيات الكلمات دلالات أخرى لم يُصرَّح بكلماتها:
أولاً: لم تكن هاجر t، على علم بنيَّة أبينا إبراهيم5، فرافقته في سفره ظانَّةً إنها ستكون معه في ذهابه وفي إيابه، ولكنهم عندما وصلوا إلى وادٍ خالٍ من كل أشكال الحياة، شرع إبراهيم5في الانصراف عنها وعن ولدها، فتعلقت به، تريد مرافقته، ولكنه لم يلتفت إليها، وأعادت عليه السؤال، فل يلتفت إليها، فأدركت أن في الأمر سرّاً، هو الذي يجعله لا يلتفت إليها ولا إلى ولدها، فسألته:
آلله أمرك بهذا ؟ فقال لها: نعم .
فأيقنت أنه إذا انصرف عنها إبراهيم، فإن الله باقٍ معها، فقالت بإيمان وتسليم: إذاً لا يضيعنا .
فقد كان وضع إسماعيل وأمه في هذا المكان أمراً من الله تعالى، ولم يكن هذا الأمر خلواً من الحكمة العظيمة التي قدّرها جل شأنه لهذا الغلام وذلك المكان، سبحانه وتعالى، فقد كان وجود إسماعيل 5 في هذا المكان اللبنة الأولى التي بُدئ بها في بناء صرح عظيم، اسمه محمد r، فانبثق الماء في الوادي. فَسَرت فيه الحياة، فاستوطنه عدد من الناس، ولو أردنا الإيغال في الفكرة لقلنا إن سبب الحياة في ذلك الموضع ليس انبثاق الماء، بل الذي كان من أجله الماء، محمد r ، الذي أراد له جل شأنه أن يكون مبعثه في هذه البعثة المباركة.
ثانياً: قبل انبثاق الماء، كان أن نفذ من سقاء أم إسماعيل، فعطشت، وبعطشها عطش وجاع طفلها الرضيع، الذي كان يحمل في ذاته نسمة رسول الله r، فهل يموت الرضيع ومعه تلك النسمة العظيمة ؟؟
انطلقت أم إسماعيل من لهفتها وحرقتها على رضيعها تسعى بين الصفا والمروة، لعلها تجد مغيثاً، ينجدها وأبنها، وبعد أن أكدت سبعة أشواط، وهي لا تعلم أنها سعت بين المكانين ذلك العدد، سمعت صوتاً، فذهبت إليه، فوجدت الماء ينبع بالقرب من ولدها، فكان في ذلك رحمة الله بها وإسماعيل، وبالنسمة التي يحملها، وبالأمة التي ستؤمن بتلك النسمة، عند انبعاثها.
ومن حكمة الله تعالى ومن رحمته، أن جعل هذا الحدث مفتاحاً لرحمته إلى يوم القيامة، فجعله ركناً من أركان الحج، فقال : قال تعالى
ﮋ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮊ البقرة: ١٥٨
فإذا سعيت بينهما فإن الله تعالى سيشكرك، وشكر الله تعالى ليس كشكر البشر، على اختلاف هيئاتهم وطباعهم، فإذا أراد ملك من الملوك أن يشكرك، فإنه لن يكتفي بكلمة الشكر، بل سيرفقها بقدر من العطايا والنعم يتناسب مع قدره كملك، ومع قدر ما يملكه، فما بالك إذا كان الشاكر رب العالمين، الذي له الخلق والأمر وبيده خزائن السموات والأرض ؟؟
إن أم إسماعيل سعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ومع نهاية السعي تحققت الرحمة لها والطفل الرضيع، وكذلك هو الشأن مع حجاج بيت الله الحرام وعمّاره، إذا فعلوا ما فعلته أم إسماعيل، فإنهم سيجدون في نهاية الشوط السابع الرحمة، قال تعالى
ﮋ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﮊ الأعراف ٥٧
ففسرت الرحمة بالماء.
فكانت نهاية السعي رحمة بأم إسماعيل ورضيعها، تحلَّت في تدفق الماء العذب المبارك إلى يوم القيامة، ورحمة بالحجاج والعّمار، تتجلّى في المغفرة والتوبة من الله تعالى، وفيما لا يعلمه إلا الله تعالى، مما ينطوي في قوله:
ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮊ
ولقد قدّر الله تعالى لهذا الماء أن تبقى آثار الرحمة فيه إلى يوم القيامة، وذلك من خلال مظهرين:
بقائه متدفقاً إلى هذا الزمن، بدون وجود أدنى احتمال لانقطاعه أو نقصانه.
قول رسول الله r
{ ماء زمزم لما شُرب له } رواه الدار قطني عن ابن عباس
فإذا شربته للعلاج شفيت، وإذا شربته للجوع شبعت، وإذا شربته للسِّمن سمنت..الخ وقد ثبتت هذه الحقيقة من خلال مسارين
أ- صحة هذا الحديث عن رسول الله r .
ب- ما روي عن بعض السلف الصالح في هذا الباب:
قال أبو ذر t: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسّرت عُكَني[53] وما أجد على كيدي سَخْفة جوع[54]
وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي، وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلْتُ الواف في ليلة ظلماء، فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج، فذكرت هذا الحديث، فدخلتُ زمزم فتضلّعت[55] من، فذهب عني إلى الصباح[56]
ثالثاً: قوله 5 لولده إسماعيل:{ إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً } وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
يشير إلى أنه 5 شرع في بناء البيت المحرّم بأمر من الله تعالى، وإلى أن البيت لم تكن له آثار ظاهرة للعيان ترشده إلى أساساته، سوى أن موضعه من الأرض كان مرتفعاً عَّماً سواه، فكيف أنجز أبو الأنبياء ما أمره به ربُّه ؟
الآيات
ﭧ ﭨ ﮋ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ الحج: ٢٦
{ إذ } ظرف لما مضى من الزمان، أي واذكر إذ بوّأنا، بمعنى بيّنا فالإظهار لمكان البيت كان بقدرة الله تعالى، إذ لم تكن له علامة على الأرض تظهره، فقيل: إن الله تعالى، أبان لإبراهيم مكان البيت بريح أرسلها، فكنست مكان البيت، فبناه على أُسِّه القديم[57]
وقبل ذلك لم يكن 5 يعلم مكانه بالتحديد، ولكن كان يعلم أن ذلك الوادي هو المكان الذي يشتمل على بيت الله الحرام، ويؤيّد ذلك قوله بعد أن ترك زوجه هاجر وولده إسماعيل:
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮊإبراهيم: ٣٧
فلم يكن للبيت من اثر أو بناء يدل عليه، ولم يُشرع في البناء إلا بعد أن بلغ إسماعيل 5 السعي مع أبيه.
ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ
إنّ: تفسيرية. . أي: قائلين له { أن لا تشرك... }
واقتران النهي عن الشرك بإقامة البيت مؤشر على أن إتيان الذنب في الحرم أخطر اثراً على المرء من إتيانه بعيداً عنه. فإذا كان الشرك بالله أعظم الذنوب على الإطلاق في كل بقاع الأرض، فإنه في الحرم أعظم خطراً وإثماً.
وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أن بقاء البيت في مكانه مرهون بتوحيد الله تعالى، فإذا انحرف البشر إلى الشرك بالله في أكناف الحرم، فسوف يكون ذلك سبباً لزواله من مكانه بقدرة الله تعالى، ومما يشير إلى ذلك موقفان:
مما ورد في معرض تفسير الآية التي نحن بصددها
إن البيت رفع إلى السماء أيام الطوفان، وكان من ياقوته حمراء [58]
ولم يكن الطوفان إلا بعْد أن دعا نوح 5 ربه، قائلاً :
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊنوح: ٢٦ – ٢٧
وهو5 لم يدع بهذا الدعاء إلا بعد أن لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله تعالى، فلم يجد منهم إلا الإعراض والإصرار على الكفر، فاستحقوا بذلك العقاب والعذاب، تُرفع البيت قبل نزول العذاب، إشارة إلى كرامة البيت، وإلى أن وجوده على الأرض لا يجتمع مع نزول العذاب
ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ
ﮋ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﮊ التوبة: ٢٨
وإضافة البيت إلى الله تعالى في قوله { بيتي } إشارة إلى قدسية ذلك البيت، والخصوصية التي له، والتي لا يملكها أي مكان في الأرض سواه، حتى أن المساجد ذاتها لم بَرْد ذكرها إلا بقوله { مساجد الله } وحتى عندما ذُكرت بكلمة بيوت، جاءت خلواً من ياء المتكلم: قال تعالى
ﮋ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﮊ النور: ٣٦
وكذلك ناقة صالح 5 ورد ذكرها بقوله ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊ الأعراف: ٧٣
وكأن إضافة الشيء إلى الله بياء المتكلم تجعله أكثر لصوتاً بالذات مما لو أضفناه إلى اسم الذات.
{ طهر } فعل أمر، فاعله ضميره مستتر، تقديره { أنت }، يعود على إبراهيم 5، وهذا يعني أن تطهير البيت من الشرك بالله منوط به 5، فماذا فعل في أمر التطهير هذا ؟
إن إبراهيم 5 لم يملك أن يطهِّر قومه من عبادة الأصنام، فهل يستطيع أن يطهِّر البيت من الشرك بالله في ظل عدم قدرته على هداية الناس إلا بأمر من الله تعالى؟
إن إرادة، التطهير لدى إبراهيم 5لم تكن ذات مسار واحد، مثلما هو الحال لدى البشر جميعاً، فقد كان لها طريقان:
الإرادة التي يجدها تتجسد في قدراته الجسدية، وهو حيّ يرزق، فيما يأتيه من فعل وقول.
وإرادة أخرى يفوض ربّه في تحقيقها، من خلال التوجّه إليه بالدعاء، وهو يعلم أن الله سيستجيب لدعائه ، فقال:
ﭧ ﭨ ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ إبراهيم: ٣٥
ﭧ ﭨ ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ إبراهيم: ٣٧
فكانت إرادة التطهير الباقية إلى يوم القيامة هي التودّ. بالدعاء إلى الحي الذي لا يموت، قيوم السموات والأرض، ليجعل البيت طاهراً من الشرك بالله، عامراً بالصلاة له سبحانه
ﮋ ﮂ ﮊ الذين يطوفون حول الكعبة المشرفة.
ﮋ ﮃ ﮊ قيل: هم المقيمون في مكة[59] وقيل : هم المصّلون [60]
ﮋ ﮄ ﮅ ﮊ هم المصلون عند من قال. بأن { القائمين } هم المقيمون في مكة، وعند من قال أنَّ القائمين هم المصلون، كان ذكر الركوع والسجود من بين سائر أركان الصلاة إعلاء لقدرها عند الله تعالى:
وفي هذه الكلمات نلاحظ ما يلي:
قدّم جل شأنه { الطائفين } عل الفريقين الآخرين، وفي ذلك إشارة إلى أن الطواف بالبيت أعلى شأناً وأجل قدراً. فكان من شروط صحّة الصلاة أن تكون مستقبل البيت الحرام، ولم يكن من شروط صحة الطواف أن تمهِّده له بالصلاة .
لا نستطيع أن نسلم بأن { القائمين } هم المقيمون في مكة، وذلك من خلال النظر إلى مسار الفريقين الآخرين، اللذين لا يخرجان عن كونها مظهرين من مظاهر عبادة الله تعالى، فكن من اللازم أن تكون مثلها، مظهراً من مظاهر العبادة. وليس من السائغ أن تكون الإقامة في مكة شكلاً من أشكال العبادة التي أمر بها الله تعالى في كتابة الكريم، لأن فيهم من هو منصرف عن طاعة الله وعبادته.
فمن هم { القائمين } ؟
في موضع آخر من كتاب الله، وردت نفس الكلمات، بنفس الترتيب مع استبدال كلمة { القائمين بـ { العاكفين } :
ﭧ ﭨ ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊالبقرة: ١٢٥
ومن خلال المقابلة بين الكطلمتين نجد أنهما يشتركان في مسار واحد، عكف على الشيء: أقبل عليه مواظباً لا يصرف عنه وجهه.
والقيام على الشيء هو الإقبال عليه، وعدم الانصراف عنه وعليه، وكذلك هو المعتكف يحسن نفسه في البيت الحرام على طاعة الله، فهو في اعتكافه وبقائه في المسجد يؤدي عبادة جليلة لما فيها من مجاهدة للنفس بالانصراف عن الخروج إلى الحياة والناس، والاقتصار على القيام في بيت الله.
ب- ﭧ ﭨ ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊالحج: ٢٧
قال ابن عباس وابن جبير: لمَّا فرغ إبراهيم 5 من بناء البيت ، قيل له: أذّن في الناس بالحج. قال: يا رب، وما يبلغ صوتي ؟ قال: أذّنْ، وعلى الإبلاغ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس، وصاح: يأيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحُجّوا. فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك[61]
ﮋ ﮇ ﮊ الأذان هو رفع الصوت بالدعوة إلى أمر ما، ومنه الأذان للصلاة. فقد أمره جل شأنه برفع الصوت عالياً، داعياً الناس إلى أن يحجّوا، أي يتصدوا بيت الله الحرام في ظل الإطار الذي أمر به جل شأنه.
ﮋ ﮉ ﮊ تشمل جنس الناس جميعاً، من كان حاضراً النداء، ومن كان غائباً، وليس هذا فحسب بل وكل إنسان يولد على هذه الأرض إلى يوم القيامة.
وها هي آخر الأمم،أمة محمد rتلبي أذان الله تعالى، الذي أجراه على لسان إبراهيم 5 ، فتقول : لبيك اللهم لبيك
ﮋ ﮋﮊ جعل، جل شأنه، الإتيان لإبراهيم5 بينما هو في الحقيقة إتيان البيت الحرام. فقيل إن في هذه الصياغة تشريفاً لإبراهيم 5. ولا اعتراض على ذلك فهو قول سليم، ونضيف إليه:
إن الله تعالى أراد أن يُعلي من قدر نبيّه لإبراهيم 5، فجعل حج البيت مجيئاً له، ليكون حاضراً في واقع الناس إلى يوم القيامة. وبقوله { يأتوك } بحق لكل مسلم يحج بيت الله أن يعلن أنه ذاهب إلى إبراهيم5، لكنه حضور يأخذ حقيقة وجودية أخرى غير الحقيقة المعهودة في الحياة الدنيا، أشار إليها خليل الرحمن بقوله:
ﮋ ﭸ ﭹ ﮊ إبراهيم: ٣٦
فإذا لَّبيت أذانه 5 تكون من تبعه، وبإتباعك له نكون منه، فإذا كنت منه، فلن يصيبك إلا ما يصيبه هو، وكأنك بضعة منه
ﮋ ﮌ ﮊ جمع راجل، وهو من يأتي سعياً على قدميه.
ﮋ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ الضامر : هو البعير المهزول الذي أتبعه السفر ولكنه الضامر قد يكون خصاناً، وذكر الضمور هنا، لأن الإبل والخيل الضامرة أقدر على قطع المسافات الطويلة والصبر عليها.
ﮋ ﮐ ﮊ النون هنا نون النسوة، وقد أُسْندِ الإتيان إليها، بينما جاء الضمير في الفعل الأول { يأتوك } للدلالة على الحجاج، فعلى من تدل نون النسوة ؟
المقصود بالضمير هو الإيل، تكرمةً لها، لقصدها الحج مع أربابها.
وهناك من ألغى كونها نون النسوة، فجعلها النون التي يُرْفع بها الفعل، وهي قراءة عبدالله بن مسعود، الذي قرأ هو وأصحابه { يأتون }، وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحّاك، والضمير فيها { الواو } يعود للناس [62]
وهناك من قال إن { رجالاً } هم الذكور من الناس، لتكون بذلك نون النسوة حالةً على النساء. وهو الرأي الأكثر استقامة من جعلها تعود على الإبل في فريضة الحج، وفي جعلها تستجيب لأذان إبراهيم 5.
ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭼ
الفج: الطريق الواسعة، والعميق: معناه البعيد، وبذلك تدخل كل بقاع الأرض في الفج العميق.
ج_ قال تعالى:
ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼآل عمران: ٩٦ – ٩٧
ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله r عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: المسجد الحرام. قلت: ثمّ أيّ ؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما ؟ قال: أربعون عاماً، أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ .
فالأولية في الآية لا تجعل قبل هذا البيت بيتاً
ﮋ ﮜ ﮊ بكة ومكة علم للبلد الحرام، وهما لغتان فيه[63]
ﮋ ﮝ ﮊ البركة هي الثناء والزيادة والخير الوفير.
فقد جعل الله تعالى هذا البيت عامراً بخيري الدنيا والآخرة.
ومظاهر هذه البركة، التي جعلها جل شأنه حاضرة في البيت الحرام عديدة ومتنوعة، ليس المجال مجال استقصاء لها، إنما يكفينا منها في هذا الموضع شاهدان ذكرهما رسول الله r .
عن أبي هريرة t، إن رسول الله r قال: { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وزاد ابن ماجه في رواية أخرى عن جابر r :
{ لا صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه }
وقال r : { ماء زمزم لما شُرب له } رواه ابن ماجه.
وكنا قد ذكرناه قبل صفحات. وسيأتي ذكر المزيد من الشواهد على هذه البركة في الصفحات التالية، إن شاء الله .
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊ
تضافرتْ كلمة { العالمين } مع كلمة { للناس }، لتؤكِّد أنَّ البيت الحرام جعله الله تعالى رحمة وهدىً للناس جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، فمن أراد الهداية فإنها في الكعبة المشرفة، ليس في ذاتها مباشرة، إنما فيما تحقق على الأرض بسبب وجودها. فقد أراد جل شأنه لإبراهيم5 أن يكون أباً للأنبياء، وأن تكون دعوته موجّهة للعالمين قاطبة، فأمره ببناء البيت المحرم وأبان له موضعه، فكان بناؤه سبيلاً بنزول الرسالات من السماء، ومن ثمّ هدايتهم، إلى أن اختتمت هذه الرسالات بأعظمها وأكملها، وهي التي بعث بها محمد r
ومن بين القرائن التي تشير إلى الارتباط الوثيق بين الهداية ووجود البيت، قول رسول الله r
فإذا انعدمت الهداية في الأرض، كان ذلك سبباً لرفع البيت لأنهما توأمان، فإذا خلت الأرض من أحدهما، خَلَتْ من الآخر
ﮋ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮊ
ﮋ ﮡ ﮊ أي في البيت.
ﮋ ﮢ ﮊ جمع آية، وهي العلامة التي تسير إلى عظيم القدرة الإلهية .
ﮋ ﮣ ﮊ جمع بيِّنة، من بان يبين إذا ظهر وبرز، وآيات بينات: أي واضحات بالقدر الذي لا يتسنى معه الإنكار.
ﮋ ﮤ ﮥﮊ في البيت آيات عديدة، ومن بين هذه الآيات { مقام إبراهيم }، الذي أُمرنا بأن تتخذه مصلى،
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﮊ البقرة: ١٢٥
وامتثل المسلمون لهذا الأمر، فهاهم بعد اكتمال طوافهم بالبيت العتيق يأتون مقام إبراهيم 5، فيصلّون فيه، اقتداء برسول الله r
فما هي طبيعة هذا المقام ؟
إن من يذهب إلى تلك البقاع الطاهرة، يرى، قريباً من الكعبة، إطاراً ذهبي اللون، قد أشتمل على أثر قدمي إبراهيم5 عندما شرع في بناء البيت مع ولده إسماعيل. فهل كانت هذه القدسية لمجرد بقاء أثر القدمين إلى هذا الزمان ؟
لا ننكر أن بقاء الأثر على مدى آلاف السنين آية من الآيات، ومع ذلك فإن الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى يشير إلى جوانب أخرى:
عِظَم قدر إبراهيم 5، والذي استحق به أن يكون له حضور دائم في أقدس بيت لله تعالى على الأرض، ليبقى ذكره حياً إلى يوم القيامة.
عِظَم قدر ذلك المكان، بسبب قيام خليل الرحمن فيه.
عِظَم الأجر والثواب الذي يناله في حال الامتثال لأمر الله تعالى بالصلاة فيه. ومن بين الآيات العجيبة التي ذكرها المفسرون في كتبهم:
أنَّ الطَّائر لا يعلو البيت صحيحاً.
ومنها أن الجارح[64] يطلب الصيد، فإذا دخل الحرم تركه.
ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الحضب باليمن، وإذا كان بناحية الشامي للحضب بالشام، وإذا عمّ البيت كان الخصْب في جميع البلدان
ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮊ آل عمران: ٩٧
ذكر جل شأنه الدخول مجرّداً من أي صفةٍ تقيده، ليشتمل الفعل في طياته كل أشكال الدخول، حاجاً كان أو معتمراً وغير ذلك ومن الشواهد على أن مجرد الدخول، يحقق الأمان لصحابه، أن مشركي مكة، بل والعرب جميعاً قبل الإسلامي كانوا يأمنون على أنفسهم إذا ما وطأت أقدامهم أرض الحرم
وقد ذكر لنا الأثر أن العديد من الصحابة والتابعين، الذين كانوا يخشون وقوع أذىً بهم، لجأوا إلى الحرم ليأمنوا من ذلك الأذى، ومن بينهم أبو موسى الأشعري الذي انطلق إلى مكة بعد واقعة التحكيم، وعبد الله بن عباس الذي فرَّ إلى مكة بعد أن استولى على أموال بيت المال في البصرة، وغيرهما كثير.
وليس الدخول فحسب هو الذي يوفّر الأمن لمن دخله، بل إن وجوده على الأرض في حدّ ذاته أمان للناس من وقوع عذاب الله بهم، وقد أشرنا إلى ذلك قبل قليل.
وأعتقد اعتقاداً جازماً أن الأمان الذي قدّره جل شأنه لمن دخله يأخذ أبعاداً أكثر بكثير مما قد قيل في ذلك، ولكنها أبعاد لم يصرّح بها رب العالمين حتى لا يتّكل الإنسان على ذلك، فيترك العمل.
وفي قوله تعالى { ومن دخله كان آماناً } نجد مسارين في الدلالة، كلٌّ منهما تحتمله صياغة الآية.
إن من يدخل البيت الحرام، تحققت له كينونة جديدة غير تلك التي كان عليها قبل دخوله الحرم، فقد أصبح آمناً، مدّة بقائه في الحرم، فإذا غادر الحرم زال عنه ذلك الأمن لخروجه من إطاره.
أما المسار الثاني الذي تحتمله الصياغة فهو أن من دخله تحققت له كينونة جديدة وهي أنه أصبح آمناً أبداً سواء أبقى في الحرم أم غادره، وجاء قوله إثر ذلك { ولله على الناس حج البيت } ثمّ جاء قول رسول الله r :
{ الحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة } مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد
ليخبرنا أن صاحب الحج المبرور سوف ينال، الأمن الحقيقي، وهو نجاته من العذاب يوم القيامة ودخوله غلى الجنة . وأما مجرد الدخول إليه فإنه لا يحقق الأمن لصاحبه، ويشهد على ذلك أن العددين من الذين لجأوا إلى الحرم لم يسلموا من القتل والتعذيب قبل الإسلام وبعده، وهاهو عبدالله بن الزبير يقتله جنود الحجاج بن يوسف الثقفي في الحرم، ويصلبونه وهو الذي بقي نفسه بـ { العائذ }، أي المستعيذ بالحرم من أن يصيبه أحد بمكروه.
ثم إن الأمن في الآية لم تقيده كلمة من الكلمات بالدنيا أو بالآخرة، ما عداه قوله تعالى{ ولله على الناس حج البيت }، ولكن الناس فهموا { آمناً } من مؤشرين:
ما سنّه الله تعالى للناس في كتابه الكريم، إذ جعل الشهور اثني عشر شهراً، ومنها أربعة حرم، فكان العرب يأمن بعضهم بعضاً في هذه الأشهر
المشاهدات التي رأوها من أحوال الحرم، ومن بينها ما ذكرناه قبل قليل في تأويل آيات البيت، وأعظم تلك المشاهدات ما كان من أمر أبرهة الأشرم الذي أهلكه الله تعالى هو وجيشه عن ما أراد هدم البيت الحرام.
ولكن هل هذا هو الأمن الذي أراد جل شأنه لمن دخل إلى بيته الحرام ؟
إن الله تعالى عندما يخبرنا بأن الأمن قَدَرٌ لمن دخل بيته المحَّرم، فإنما يسبغ عليه أمناً من فيض قدرته ورحمته، فإذا فهمنا الأمن بالمعنى الذي تداوله الألوان واللاحقون، فما قَدَرنا الله حقَّ قدره، وهو الذي إذا أعطى جزيلاً بالقدر الذي يشهر له بالعظمة والجلال .
ثمّ إن الأمن في الدنيا ليس شيئاً، ليكون جزاء من الله لمن عظّم بينه، وهل في الدنيا من أمان ، وهي التي جعلها الله تعالى دار ابتلاء ؟
إن الأمن الذي يليق بذات الله تعالى، ويليق به أن يكون جزاء لمن عظَّم بيت الله الحرام، هو الأمان من عذاب النار يوم القيامة، فصرّح بذلك رسول الله r فق قوله
{ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }
ولذلك جاء قوله تعالى بعد ذكر الأمن :
ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﮊ آل عمران: ٩٧
واللام في قوله { ولله } لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله { على } التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: الفلان علىَّ كذا، فقد وكَّده وأوجبه. فذكر الله تعالى الحجّ بأبلغ ألفاظ الوجوب، تأكيداً لحقه، تعظيماً لحرمته[65]
ومن خلال هذا التَّشْدِيد في الصياغة، نفهم أن الله تعالى أراد أن ينبِّه عباده إلى مافي الحج من قدسيَّة، وبالتالي إلى الفضل العظيم الذي يتناسب مع هذه القدسَّية، وهو ما أشار إليه رسول الله r في حديث الحجّّ المبرور.
ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ
إن اقتران هذه الكلمات بفرض الحج في آية واحدة، وفي سياق دلالي واحد، يشير إلى أن من انصرف عن حج البيت وهو قادر عليه استحق أن يوصف بأنه كافر.
ولكن كيف يكون كافراً وهو يشهد الشهادتين ؟
نظر الأولون إلى هذه الآية، ففهموا منها كفر من ترك الحج، ولكن فهمهم هذا اصطدم مع الشهادتين، فجاءت أقوالهم لاهنا ولا هناك، وإليكم بعضاً مما نقل عنهم:
قال ابن عباس : ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً.
وقال الحسن البصري : إن من ترك الحج، وهو عليه قادر، فهو كافر.
قال عمر بن الخطاب t : لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار، فينظرون من كان له مال لوم يحج، فيضربون عليه الجزية.
وقال سعيد بن جبير : لو مات لي جار وله مَيْسة، ولم يحج لم أُصَلِّ عليه.
وقد روي الترمذي عن الحارث عن علي: قال رسول اللهr :
{ من ملك زاداً وراحلةً، تُبلِّغه إلى بيت الله الحرام، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً...} [66]
ولكن الحديث ضُعِّف من قبل رواته، ولذلك كان من الأحاديث، الضعيفة، وهذا يعني إثبات عدم الكفر من انصراف عن الحج بدون أن يصرَّح له.
فهل من مخرج في هذه القضية ؟
إن الذين ينصرفون عّما فرضه الله تعالى على عباده رجلان:
رجل ترك الفرض كسلاً وتفريطاً، وهو مقرٌّ به، لا منكر له
ورجل تركه منكراً له.
ولا أعتقد أن أحداً يجرؤ على أن يسوّي بين الرجلين. فالثاني كافر بالإجماع، لأنَّه أنكر شيئاً معلوماًُ من الذين علم ثبوت ويقين. وأما الثاني فإنه لم ينكر ذلك الفرض، ولكنه استسلم لهوى نفسه، فإذا مات ولم يؤدِّ الفريضة، فهل نصفه بأنه كافر، وهو لم ينكرها في حياته ؟
لقد أراد جل شأنه أن يهدي عباده إلى فداحة التهاون في أداء الحج، فذكر بلفظ الكفر، ولكنه كفر لا يٌخرج الإنسان من ملّة الإسلام، بدليل أن الله تعالى لم يجعل جواب الشرط وعيداً وعذاباًَ، بل قال { فإن الله غني عن العالمين }،
ليجعل لفريضة الحج مساراً آخر غيره مسار بقية الشرائع، التي ذكرها شأنه قرونة بالثواب وبالعقاب.
إن الله تعالى هو أرحم الراحمين، فشرع لعباده من الطاعات ما يكون باباً لاتساع الرحمة الإلهية، فقال في حديث قدسي،
{ كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله يقول الله: إلا الصَّوم، فإنه لي وأنا أجزي به } رواه مسلم
الحج حقاً واجباً له على عباده، وديناً له، يطالبهم به. فإذا أدّاه المرء فإن الجنة هي ثوابه المرتقب، وإذا لم يؤدِّه، فلا يظن أن الانصراف عنه سيؤثر عليه سبحانه ، لأنه غنيّ عن العالمين.
فلم يقل جل شأنه: ومن كفر فإن الله شديد العقاب، أو : فإن الجحيم هي المأوى، لأن الكفر المذكور لا يورد صاحبه عذاب النار، فهو، كما قلنا، ذكر لفظ الكفر تهويلاً لترك الحج، الذي لا يجعل صاحبه آمناً يوم القيامة، ويؤيد ذلك ما ورد عن رسول الله r { الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }
فذكر تركه بلفظ الكفر إشارة إلى أن ذلك . قد يجعل الإنسان عرضة للوقوع في شر أعماله، التي لا ينجيه منها إلا الحج المبرور
د- ﭧ ﭨ ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊالبقرة: ١٢٤ - ١٢٥
ﮋ ﮥ ﮦ ﮊ الابتلاء: الامتحان والاختبار
ﮋ ﮩ ﮊ اختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال:
هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهماً، عشرة منها في سورة براءة: { التائبون العابدون } إلى آخرها، وعشرة في الأحزاب: { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخرها، وعشرة في المؤمنون { قد أفلح المؤمنون } إلى قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون }
قال ابن عباس t : ما ابتلي الله أحداً بهنّ فأتّمهن إلا إبراهيم 5.
المقصود بالكلمات: الأمر والنهي.
وقيل: ذبح ولده.
وقيل: بأداء الرسالة.
وعلق القرطبي على ذلك قائلاً : المعنى متقارب.
وروي عن عباسٍ أيضاً: ابتلي الله تعالى إبراهيم بالطهارة، خمس في الرجل وخمس في الجسد، فأما التي في الرأس فهي قصّ الشارب، والمضمضة، الاستنشاق والسواك، وفرق الشعر. وأما التي في الجسد، فتلقيم الأظافر، وحلق العانة والاختتان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء[67]
ورد في صحيح مسلم عن رسول الله r في شأن إبراهيم5.
{ أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم }[68]
ﮋ ﯓ ﯔ ﯕﮊ لقد كان إبراهيم 5 موضوعياً، فلم يطمع أن تكون ذريته أئمة للناس، فرجاً من الله تعالى أن يكون بعضٌ منْ ذريته أئمةً للناس، لأن مِن تفيد التبعيض.
والذرية هم الأبناء، ولا تقف عند الأبناء المباشرين فقط، بل تمتد إلى آخر الزمان إن كان للذرية بقاء، فكان من ذريته إسماعيل وإسحاق وكلٌّ منهما كان نبياً، ومن ذريته محمد r الذي جعله الله تعالى إماماً للعالمين، فكل الأنبياء من بعده كانوا من ذريته.
ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﮊ
وكان يقولون في البلاغة العربية { وبضدّها تتميز الأشياء }، فإن الله تعالى نفى أن ينال عهدّه الظالمين، أما المحسنون فإنهم لا يُنْفى عنهم ذلك. بمعنى أن الله لا يلقى عهده إلى الظالمين، بل يلقيه إلى المحسنين منهم.
وفي ذريته 5 كان هناك المحسنون وكان الظالمون
ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ الصافات: ١١٣
ﮋ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
ﮋ ﯠ ﮊ الموضع الذي يُثاب إليه، أي يُرْفع إليه.
ولا يكون الرجوع إلى الشيء إلا بعد الانصراف عنه، وهذا يعني أن زائر البيت، إذ يزوره لأول مرة، إنما هو راجع إليه، فمتى كان فيه، لتكون زيارته مثرية ؟
ورد في كتاب الله تعالى قوله { إليه ترجعون } إشارة إلى أنَّ الخلق كانوا في كنف الله تعالى وعندما وقعت المعصية أنزلهم إلى الأرض، فإذا قامت القيامة كان الرجوع إلى الله.
ولكن المتتبع للأثر يجد أن الذي كان في حضرة الله تعالى بدايةً كان أبانا آدم 5، الذي أنزله الله تعالى إلى الأرض، ثم آماته، ويوم القيامة يُرْجعه الله إليه، فكيف جاء الرجوع منسوباً إلى الخلق أجمعين، مع أن حادثة الانصراف كانت لذات واحدة ؟
إن ذرية آدم 5 كلها كانت في صلبه من خلال عدَّة مسارات .
أن تكون في ظهره حقيقة، وهو ما نجده واقعاً بعد نزوله إلى الأرض، قال تعالى:
ﮋ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮊالأعراف: ١٧٢
ومما قيل في تفسير ذلك: إن الله تعالى مسح على ظهر أبينا آدم 5 فنزلت من كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وجعل لها إدراكاً ومنطقاً، لتدرك ذات ربها، وتشهد له سبحانه بال إلوهية والربوبية.
أو أن ذريته5 كانت حاضرة فيه من خلال النظر إلى أن ذاته 5 هي الذات الكلية، وذريته التي انبثقت منه لاحقاً، ماهي إلا أجزاء منه 5، والجزء يلحقه ما يلحقه الكل أو الأصل
أو أن وجود هذه الذرية كان وجوداً علمياً، أي كائناً في علم الله عل هيئة لا يعلمها إلا الله تعالى، فخرجت من عند الله تعالى في صلب آدم إذا أُنزل إلى الأرض.
ثلاث رؤى تحاول أن تفسر معنى الرجوع إلى الله تعالى، وأما الرجوع إلى البيت الحرام، فقد قيل إن الميثاق الذي أخذه جل شأنه على ذرية آدم كان في مكة أولاً، وقيل إن هذا الميثاق أودع في الحجر الأسود .
وبعد أخذ العهد والميثاق على الذرية أودعها جل شأنه في صلب آدم من جديد، ومن ثَمَّ بدأ التناسل والتكاثر، فتفرق الأبناء في أنحاء الأرض المختلفة جيلاً بعد جيل وإلى هذا الزمان، فإذا أراد أحد الأبناء أن يقصد بيت الله حاجاً، فقد حقق الرجوع، ولكن في صورةٍ أخرى. غير تلك التي كان عليها إذ كان في أكناف البيت العتيق عند ما كان في { عالم الذّر } والله أعلم.
ﮋ ﭦ ﮊ سبق أن أشرنا إلى ذكر { الناس }، وقلنا أن الخطاب بها في كتاب الله تعالى يتوجّه إلى من لم يؤمن بوحدانية الله تعالى، وأما الذين آمنوا، فإن الخطاب لهم يكون بـ { الذين آمنوا }.
ولكن مسار كلمة { الناس } في قصة أبينا إبراهيم 5 يختلف عن ذلك، ولكي تتّضح الصورة أكثر أورد لكم المراضع التي ورد فيها ذكر الناس.
ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮊ البقرة: ١٢٤
ﮋ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ البقرة: ١٢٥
ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﮊ إبراهيم: ٣٦
ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ إبراهيم: ٣٧
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﮊ آل عمران: ٦٨
ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ آل عمران: ٩٦
ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ الحج: ٢٧
ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ المائدة: ٩٧
أولاً: قال تعالى
ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﮊ آل عمران: ٦٧
إن كلمة { أًوْلى } جاءت على صيغة أفعل التفصيل، ولا يكون التفاصيل إلا في صفة مشتركة بين طرفين أو أكثر، وهذا يعني أن ولآية أصل الكتاب لإبراهيم5 حاصلة، ولكن الله تعالى قضى للأمة المسلمة أن تكون هي الأكثر الآية له5 ، والأكثر استحقاقاً للانتساب إليه.
وهذا الآية تقودنا أيضاً إلى أن الدين عند الله تعالى ليس يهودياً ولا نصرانياً بل الإسلام.
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﮊ آل عمران: ١٩
فقد كان أنبياء الله جميعاً مسلمين، وهاهو يعقوب 5 يوصي أولاده:
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﮊ البقرة: ١٣٢
فالذين سرت عليهم صفة { اليهود } في هذا الزمان وفي الأزمان السابقة، كانوا في الأصل مسلمين، ولكن النفوس المريضة حرَّفت الدين وزورت الحقيقة، فاستبدلوا صفة الإسلام باليهودية والنصرانية
فاعتراف أهل الكتاب بإبراهيم 5، والإصرار على جعله أصلاً لهم، يعطيهم قدراً من الإيمان، ولو كان ضئيلاً، ومن أجل ذلك كانت كلمة { الناس } أكثر مناسبة في مسارات نبوّة إبراهيم 5 ، لأنه بُعث إلى الناس كافة، لا إلى قوم بعينهم، فكان أن قَدَّره له جل شأنه أن يؤسس من أصول الين ، يكون للناس جميعاً.
فلو كان الخطاب للذين آمنوا، لكانت أمَّة محمد r هي المعنية بذلك الخطاب، ولكن ذكر ولكن الناس، ليكون الخطاب موجّهاً للخلق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم ومشركهم.
ثانياً: وباستحضار الكلمات التي ذكرت عند تأويل كلمة { مثوبة } نقول:
إن إيداع الميثاق الأول في الحجر الأسود، وكون البيت الذي بمكة أول بيت وضع للناس، وكونه بذلك إرثاً للناس جميعاً، كل ذلك يجعله قياماً للناس جميعاً، أي قياماً، وبقاء لأحوالهم ووجودهم على هذه الأرض.
ثم إذا وضع الحجر الأسود في مكانه من البيت بعد بنائه بيد إبراهيم5، مؤشر إلى أنه 5 معني بالناس جميعاً، لأن ميثاق الناس جميعاً كان في الحجر الأسود.
ﮋ ﯢ ﮊ أشرنا إلى ذلك الأمن فيما سبق، فلُيْرجع إليه
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﮊ
ﮋ ﯧﮊ اسم مفعول من { صلّى }، وهو المكان الذي يقع فيه فعل الصلاة، فخصَّ جل شأنه هذا المكان بالأمر بالصلاة فيه، إشارة إلى أنه من أفضل الأماكن التي تتحقق فيها الصلة بين العبد وربَّه، بدون أن ينفي ذلك تحقق الصلة بين العبد وربه في كل بقاع الأرض. ولكن الله تعالى أراد أن يكرم نبيه إبراهيم 5 بجعل مقامه من أكثر الأماكن نفاذاً إلى الصلة به سبحانه، وإلى رحمته، فأمر العباد بالصلاة فيه، إحياء لذكره 5 ورحمة بالعباد، كانت الصلاة في المقام سبباً لها.
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ
ﮋ ﯩ ﮊ العهد هو الميثاق الذي يقوم بين طرفين، فكان الأمر من رب العالمين، وتنفيذ الأمر على إبراهيم 5 وعلى ولده، والأمر هو :
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﮊ التطهير لا يكون إلا من كل مظاهر الرجس والنجس، وأكبر أشكال الرجس الواجب تطهير البيت منها، الشرك بالله تعالى.
ﮋ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ
كنا قد أشرنا إلى ذلك في قوله تعالى:
ﮋ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ الحج: ٢٦
وقد ذكرنا بعضاً مما رأيناه في قوله { والقائمين } بعد الإشارة إلى ماوقع فيها من اختلاف في التأويل.
وورود الآية هما بنفس الترتيب السابق، يشير إلى أن هذا الترتيب مقصور لذاته، وإلى أن قوله { والعاكفين } في هذا الموضع جاءت تفسيراً لقوله { والقائمين }
والمعكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء
ومن ذلك جاء العكوف في المساجد، الذي يعني بقاء المسلم في المساجد، قارئ كل أمور الحياة خارج المسجد، والاقتصار على المسجد عبادة لله وتقرباً
وذكر جل شأنه { الركع السجود } بعد { العاكفين } إشارة إلى أن { القائمين } التي وردت في موضع آخر، لا تعني الصلاة، بل تعني: حبس النفس والجسد داخل بيت الله، فإذا فعل، فإنه يغالب نفسه مغالبة شديدة تقرباً إليه سبحانه، ومن أجل هذه المغالبة كان تقديمها على { الركع السجود }
الْغلامُ الْحَلِيْم
ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﮊ الصافات: ١٠٠ - ١١١
دعاء إبراهيم 5 ربه، فقال :
ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ
فاستجاب له ربه، فقال:
ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﮊ
وكنا قد أشرنا إلى أن الغلام الحليم هو إسماعيل 5، وليس إسحاق، لأنه ثبت لإسحاق 5 في موضعين من كتاب الله تعالى وصفه بأنه { غلام حليم } .
فالحليم هو إسماعيل5، الذي كان استجابة لدعاء إبراهيم 5، بينما كان إسحاق وولده نافلة، أي زيادة وكرماً بدون طلب مسبق منه 5.
ﮋ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﮊ
أي لما بلغ معه السّن التي يكون فيها قادراً على السعي مع أبيه في أمور دنياه، معيناً له على أعماله، وجواب { لما } قوله :
ﮋ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﮊ
جاء التعبير بالفعل المضارع { أرى } إشارة إلى أنه 5 لم يرَ تلك الرؤيا مرة واحدة، بل مرات عديدة، لأن التعبير بالفعل المضارع يفيد تجدد الفعل واستمراره، ومما ورد في ذلك:
إن إبراهيم 5 رأى في ليلة التروية كأن قائلاً يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك. فلما أصبح رؤَّى في نفسه، أي فكّر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان، فسمِّى { يوم التروية}، فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضاً، فلما أصبح عرف أن ذلك من ذلك من الله، فُسمِّى { يوم عرفة} ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره، فسُمِّى { يوم النحر }[69]
ونلاحظ في الأثر المذكور ما يلي:
إن التخريجات المذكورة لأيام الحج لم تكن إلا اجتهاداً من العلماء، وهو اجتهاد يفرض نفسه بقوة من خلال القياس على بعض الأجزاء، كيوم النحر، الذي ينحر فيه الحاج هديه، اقتداءً بأبينا إبراهيم 5، عندما أقبل على ذبح ولده إسماعيل ... وغير ذلك
وأما القول { إن الله يأمرك بذبح ابنك } فقول مردود، لأن قوله { أني أذبحك} يفيد أن إبراهيم 5 رأى نفسه في المنام متلبساً بفعل الذبح ،أن قائلاً يقول له: اذبح ابنك .
لماذا الذَّبْحُ ؟
إن الله تعالى إذا أمر عباده بأمر، فإن هذا الأمر لا يأتي خلواً من فيض الرحمة والمغفرة بهم. فكان في سنة الذبح مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده، لمن كان في بيت الله الحرام، أو كان بعيداً عنه.
قال تعالى:
ﮋ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﮊ
لقد كان الذبح أمراً من الله تعالى، ويشهد على ذلك قول إسماعيل 5 لأبيه { افعل ما تؤمر} .
والنظر في هذا الأمر يقودنا إلى دلالتين.
إن الأمر من الله تعالى لا سبيل نبذه من قِبَل أنبياء الله تعالى، فما بالك إذا كان ذلك النبي هو من قال فيه جل شأنه:
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ النساء: ١٢٥
ثم إن الله تعالى إذا أمر بأمر فإنه لا يتراجع عنه، ولا يبدّله ، قال تعالى :
ﮋ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﮊ ق: ٢٩
وقال أيضاً:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﮊ البقرة: ١٠٦
فالنسخ والإنساء لايعنيان الإلغاء، لأنهما لا يقعان على ذات الشيء إنما على مظهره، ويشهد لذلك أن الأمر بالذبح لم يُنْسخ، بل نُفِّذ، ولكن الله تعالى غير صورة تنفيذه، فبذل وقوعه على إسماعيل 5 جعله الله على ذلك الذبح العظيم.
لقد كان الفداء نجاة لإسماعيل 5 من الذبح الذي أمر به رب العالمين، ولكنها نجاة لم تتحقق إلا بإرادته سبحانه، رأفة ورحمة بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والأمة التي ستنبثق منهما، ولأمور أخرى سنجتهد إن شاء الله في ذكرها لاحقاً.
إن الأمر الذي ألقاه العزيز الحكيم إلى إبراهيم5، يشتمل على غايتين، ترتبطان ببعضهما أشدّ الارتباط :
الأولى: تنزيه الله تعالى عن الشريك.
قال تعالى { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } والخلة لا تتحقق إلا إذا كان كل طرفٍ من أطراف هذه العلاقة خليلاً للآخر، وهذا يعني أن الله تعالى كان خليلاً لإبراهيم 5، وفي هذه الحالة لا يجوز لأبي الأنبياء أن يتخذ خليلاً له من الخلق، لأنه يكون بذلك قد جعل لله شريكاً في الخلّة.
وعندما رُزق 5، بالولد بعد طول انتظار، وبدأ يكبر شيئاً فشيئاً وتكبر معه محبة أبيه له، أراد جل شأنه أن يختبر عبده إبراهيم بأن يجعله بين خيارين، أن يمتثل لأمر الله تعالى الذي اتخذه خليلاً ، أو أن يرضخ لمحبة ولده التي تخللت قلبه. فكانت النتيجة أن تجلَّت خلة إبراهيم 5 لربه في أعظم صورها فلم تقف أمامها محبة الولد، لتمنعها من تنفيذ أمر الخليل { رب العالمين} .
الثانية :إن الاستجابة لأمر الله تعالى سبيل لنيل الرحمة والمغفرة والرضوان، ولو أن الذبح تمّ، ولم يتحقق الفداء، لكان في تمامه سبب لأعظم الجزاء لإبراهيم 5لأنه امتثل لأمر الله في أقصى ما يصل إليه الابتلاء، ولإسماعيل 5 الذي سلّم لأمر الله، ووطن نفسه على الصبر على معاناة الذبح
وقبل أن استرسل في موضوع الذبح، أجد أنه من اللازم التنبيه إلى أن الذبح والقتل واحد من باب أن كلاً منهما إزهاق للكائن الحي إنساناً كان أو حيواناً .
وقد ورد في كتاب الله تعالى شواهد عديدة على أن القتل قد يكون سبباً لأعظم الأجر والثواب، ولحلول الرحمة الإلهية بالعبد أو العباد، ومن ذلك:
قال تعالى :
ﮋ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﮊ آل عمران: ١٦٩ – ١٧٠
أمر الله تعالى عباده بالقتال في سبيله، ووعد الذين يستجيبون لأمره بالنصر والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وإن قتلوا كان لهم من الجزاء مالم يكن لأحد سواهم وهو أن يظلّوا أحياء عند الله تعالى بمعنى أن مفارقتهم للحياة لا تعني موتاً مثلما هو الحال عند من لم يمت قتلاً في سبيل الله، قال تعالى في سورة البقرة
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﮊ
فها هو الذبح { القتل } في سبيل الله تعالى يحقق للإنسان من رحمة الله وكرمه مالا يتيسر من خلال أي شكل من أشكال الطاعات.
وفي نعرض لقاء الخضر وموسى عليهما السلام حدث أن قتل الخضر غلاماً بدون أن يقترف الغلام ذنباً، يستحق عليه القتل، وعندما اعترض موسى 5 بيَّن العبد الصالح الهدف من قتل الغلام، فقال :
ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮊ الكهف: ٨٠
أي أنه كان في علم الله تعالى أن هذا الغلام لو قدِّر له أن يعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال، فسيكون شقياً عاصياً، وسيسلط جبروته على أخويه لأنهما مؤمنين، فكان انّ قدِّر الله تعالى له القتل { الذبح } رحمة به وبوالديه:
أ- رحمة به، لأنه مات صغيراً قبل أن يرتكب الموبقات، ليكون يوم القيامة من أهل الجنة، على العكس تماماً مما لو بقى حيَّاً.
ب- ورحمة بأبويه، لأنه تعالى، صرف عنهما ما ينغص عليهما حياة الإيمان في قلبيهما وفي واقعها.
قال تعالى:
ﮋ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮊ البقرة: ٥٤
قيل في تفسير ذلك: أمر من لم يعيد العجل أن يقتلوا الذين عبدوه، فقتل سبعون ألفاً[70]
فكان في قتلهم لأنفسهم توبة لهم وطهارة من الذنوب، تنجيهم من عذاب الله تعالى يوم القيامة.
قال تعالى:
أ- ﮋ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﮊ البقرة: ١٩٦
كان الأصل هو عدم التمتع والتحلل من الإحرام، ولكنه جل شأنه أباح لأمة رسول الله r ذلك التمتع رأفة ورحمة بهم، وجعل مكانه هدياً بالغ الكعبة، أي يذبح عند الكعبة.
ب- ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ المائدة: ٩٥
لقد حرَّم جل شأنه على المسلم الصيد وهو مُحْرم، فإذا خالف ذلك النهي فإنه آثم، ففرض عليه جل شأنه، كفارة لإثمه، أن يذبح من النعم ما يعدل قيمة ذلك الصيد الذي اصطاده.
وممّا ورد في سنة رسول اللهr :
{ يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخرى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى: إني حّرمْتُ للجنة على الكافرين. ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك ؟ فينظر، بذلك هو بذبح ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار} رواه البخاري .
وكأن الحديث يشير غلى أن الله تعالى يفتدي { آزر } من عذاب النار يوم القيامة بذلك الذبح، بكرامة لإبراهيم 5.
عن عائشة y، أن رسول الله r ، أمر بكبش أقْرن، يطأ في سواد[71] ويبرك في
سواد، فأتى به، ليضحِّي به، فقال لها: { يا عائشة، هلمِّي المدية} ثم قال { اشحذيها بخنجر } ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش، فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال { بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمّة محمد } ثم ضحّر به } رواه مسلم في صحيحه.
وكأن الذَّبح قربةٌ جليلة، تقرَّب بها رسول اللهr بيده الشريفة، واستحقت، لشرفها وجلالها، أن تكون كافية لأن ينال من أجرها، رسول الله وآل بيته الأطهار. أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار r إلى ما للأضحية من فضل يوم القيامة، فقال: { استشرقوا[72]ضحاياكم، فإنها على الصراط مطايكم}[73]
فهل تريد لمطيتك إلى الجنة أن تكون عرجاء أو عوراء ؟
إن كلاً منّا يودّْ أن يكون مطيته أبصر للطريق، وأقدر على الجري فوق الصراط، ومن أجل ذلك كان التشديد على سلامة الأضحية من العيوب .
وقال r
{ ماعمل آدمي من عملٍ يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً } رواه الترمذي .
فيما سبق من إشارات نجد أن الله تعالى قدّر وشاء أن يكون الذبح سكناً عظيماً، وسبباً جليلاً للرحمة والمغفرة. وليس لنا أن نبحث فيما وراء ذلك إلا بالقدر الذي يسمح به العقل والنقل. فكان الذبح نجاةً لاسماعيل 5، وفداء له من أن يُذْبح .
وسبب تردّد القول في الذبيح بين إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، هو أن الأمة المسلمة والأمة اليهودية، كلاً منهما تريد أن يكون لها ذلك الفضل، أن يكون بينها الذي تنسب إليه هو ذبيح الله.
ومن عظمته أمْة محمد r أنها لم تتعصب لأبيها إسماعيل تعصباً أعمى، فهي على استعداد تام لأن تشهد لإسحاق 5 بكونه هو الذبيح، إذا كانت الشواهد تقطع بالأمر له.
ويعتقد اليهود أن الذبيح هو إسحاق5، وتابعهم في ذلك عدد من علماء المسلمين. فماذا يجد اليهود في كتابهم الذي يستندون عليه في اعتقاداتهم
{ فولدت هاجر لإبراهيم ابناً، ودعا إبراهيم اسم ابنه الذي هاجر إسماعيل. كان إبراهيم ابن ست وثمانين سنة لمّا ولدت هاجر إسماعيل } سفر التكوين. صحيح
{ وخبلت سارة وولدت لإبراهيم ابناً في شيخوخته. في الوقت الذي تكلم الله عنه. ودعا إبراهيم اسم ابنه المولود له الذي ولدته له سارة إسحاق ... وكان إبراهيم ابن مئة سنة حين ولد له إسحاق ابنه } سفر التكوين: الإصحاح
من النصين السابقين ندرك ما يلي:
أن إسماعيل 5 كان المولود الأول لإبراهيم5
وأن إسحاق 5 ولد بعد أربعة عشر عاماً من مولد إسماعيل. فإذا كان الذبح لإسحاق عليه السلام فما معنى النص الثاني:
{ وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم . فقال له يا إبراهيم. فقال هأنذا. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك مُحْرقة على أحد الحيال التي أقول لك } التكوين
{ وعندما اقتتل إبراهيم 5 لأمر ربه:
{ قتاداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم . فقال هأنذا . فقال لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك خائفٌ الله. فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه مُمْسَكَاً في الغابة بقرنيه} التكوين
فكان في قوله { وحيدك } تنص لكون الذبيح إسحاق 5 لوجود ولدٍ آخر، اسمه إسماعيل. ولا تستقيم كلمة { وحيدك } إلا بوجود ولد واحد. فكان إسماعيل 5 هو حامل هذه الصفة، لأنه أول مولود لإبراهيم5 ، وبقى ولده الوحيد مدَّة أربع عشرة سنة.
وممَّا ورد في الأثر: أن رجلاً قال للنبي r أبن الذبيحين { ضحك النبي r }[74]
فكان الأول إسماعيل 5، والثاني أباه المباشر عبد الله بن عبد المطلب وقصة ذبح عبد الله والد رسول الله بدأت عندما نذر عبد المطلب، إن أعطاه عشرة من الولد أن يذبح أحدهم، فأعطاه الله عشرة من الأولاد. فأجرى عليهم القداح ، فخرجت على عبدالله، فأضجعه أبوه وأراد أن يذبحه، فضجّت قريش، وأبو عليه أن يذبح ولده، وطلبوا منه أن يفتديه بالإبل، فأجرى القداح على عبدالله وعلى عشرة من الإبل، فخرجت على عبد الله، فأعاد رمي القداح على الإبل، ولكن عبد المطلب لا يريد أن يتحايل على ربّه، فيكتفي بهذه المرّة، فأجرى القداح مرة ثانية وثالثة، فخرجت كلها على الإبل ، إذ ذاك علم أن الله قد رضى ذلك الفداء .
وقد يُقال : إن مائة من الإبل أكبر قدراً من ذلك الكبش الذي كان فداءً لإسماعيل 5 .
فأقول : نعم، إذا كان ذلك الكبش من جنس الأنعام التي يتداولها البشر على هذه الأرض، ولكنا نجد أن الله تعالى وصف ذلك الذِّبح بأنه { عظيم }، وليس من المنطق أن نظن أن الله تعالى وصف ذلك الذبح بهذه الصفة، وهو لا يخرج عن كونه كبشاً من الأكباش المعروفة على الأرض.
وقد حاول السلف الصالح أن يكشفوا سرّ عظمته ذلك الكبش، فورد عن ابن عباس y أنه قال: هو الكبش الذي تقرب به هابيل، وكان في الجنة يرعى، حتى فدى الله به إسماعيل.
ولكن كبش هابيل في ذلك الوقت كان نسلاً من كباش الأرض، السطرين السابقين، فجعل لذلك سبباً وهو أمره إبراهيم يذبح ولده.
وعندما تلقى إبراهيم 5 الأمر لم ينفذه مباشرة، مع علمه بأن الأنبياء لا يرون في نومهم إلا حقاً، فأراد أن يتيقن من الأمر، يرى فيه شرع الله تعالى، وعندما عاودته الرؤية مرتين أخريين أتين أنها من الله، فلم يملك إلا التسليم.
فكان من حق إسماعيل5 أن يدلي بموقفه من أمر الله تعالى، فألقاه إليه إبراهيم5 على نفس الهيئة التي ألقي إليه فيها، فقد ألقاه إليه رب العالمين وهو يعلم أن عبده إبراهيم يملك الإرادة والاختيار لتنفيذ الأمر أو تركه، فاختار إبراهيم تنفيذ أمر الله، واجتاز الابتلاء بامتياز .
وعندما أُلقي الأمر إلى إسماعيل5، كان لابد له من أن ينال نفس الحق الذي كان لأبيه، الموافقة على التنفيذ أو العصيان، فكان حاله كحال أبيه في التسليم لأمر الله تعالى، ويوثق ذلك قوله تعالى:
{ فلما أسلما } أي أسلم إبراهيم لأمر الله وأسلم إسماعيل لأمر أبيه عندما رأى أنه يفعل ما أمره به ربه. فماذا قال إسماعيل 5
ﮋ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﮊ
لم يقل إسماعيل 5 شيئاًُ أمام أمر ذبحه سوى ثلاث كلمات
{ فعل ما تؤمر }، إشارة إلى ما يملكه من حزم ورباطة جأش لا تقل عمّأ يملكه أبو 5، وكأن ذبحه ليس شيئاً ذا بال إذا كان مما يرضي الله تعالى.
وأدرك إسماعيل أن ذبحه سيكون شديداً على أبيه، فوعده بأنه لن يستسلم للجزع، لأن ذلك من شأنه أن يزيد من معاناة أبيه، ولم ينس أن يستحضر مشيئة الله تعالى في ذلك الوعد بقوله { إن شاء الله }،لإدراكه أن جميع مسارات الإنسان الفكرية والإدارية مرهونة بمشيئة الله، فألهمه الله تعالى الصبر على البلاء، وقد وصفه الله تعالى بهذه الصفة، وأثبتها له في موضع آخر من كتابه الكريم، فقال :
ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮊ الأنبياء: ٨٥
فقدم جل شأنه إسماعيل على إدريس وذي الكفل إشارة إلى أنه أعلى درجة في هذه الصفة.
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﮊ الصافات: ١٠٣ – ١٠٤
{ اسلما } انقادا لأمر الله تعالى وخضعا.
{ وتله للجبين } أي صرعه على جبينه، أي جعل جبينه إلى الأرض، لكيلا ينظر إلى وجهه، ولكيلا يكون في رؤية إسماعيل5 للسكين مزيدُ عذاب وألمٍ له.
وقد اختلف ي جواب { لمَّا }:
جواب لما محذوف عند البصريين تقديره { فلما أسلما وتلّه للجبين } فديناه بكبش .
وقال الكوفيون : الجواب { ناديناه } والواو زائدة مقحمة مثل قوله تعالى .
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﮊ يوسف: ١٥
أي : أوحينا
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮊ الأنبياء: ٩٦ أي اقترب.
ﮋ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ الزمر: ٧٣أي: قال لهم
أو جواب لمَّا محذوف، تقديره: قبلنا منه وناديناه[75]
وفي حذف جواب الشرط للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف، أو لتذهب نفس السامع مع كل مذهب ممكن، فلا يتصور مطلوباً أو مكروهاً إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه[76]
أراء عديدة ذُكرت، محاولة لفهم الدلالة من خلال هذا التركيب اللغوي والملاحظ فيها كلها أنها اعتمدت على البناء الهيكلي للجملة الشريطية، من حيث أنها تقوم على جزأين: جملة الشرط، ولأن جوا ب الشرط لا يكون معطوفاً على جملته كان لابد من تأويل هذا الجواب، لخلو السياق من، فبعضهم قدَّره تقديراً، والبعض الآخر قال: إن الواو مقحمة، أي دخيلة على الجملة، وذلك لكي يستقيم بناء الجملة الشرطية.
ولكننا إذا نظرنا إلى الجملة الشرطية في إطار القدرة الإلهية، قد نجد دلالة أخرى تعجز عن أدائها الجملة الشرطية على نسقها المعلوم في النحو العربي:
لو قلنا: { دخل محمد فسعيد } لفهمها من الفاء أن دخول سعيد جاء تالياً لدخول محمد، وهو الأمر الذي لا يختلف عليه اثنان، فالفاء بهذا الوضع جاءت رابطة ً بين الدخولين، وليس هذا فحسب، فقد جعلت بينهما علاقة ترتيبية .
وكذلك هي الجملة الشرطية:
فلو قيل:{ فلما اسلما وتله للجبين } ناديناه، لفهمنا أن النداء جاء تالياً للإسلام والتل للجبين، ونتيجةً لهما، ولكن وجود الواو في { وناديناه } يجعلها معطوفة على { أسلما، تلّه } وهو الأمر الذي يجعلها محصورة في جملة الشرط، الأجوبة.
ومع ذلك، فإن الترتيب الذي تطرحه الجملة الشرطية، واقع في نصَّ الآية من خلال النظر إلى ترتيب الأحداث، فقوله { فلما أسلما } كان سبباً لـ { تلّه للجبين } والتل للجبين كان سبباً لمناداة الله تعالى إبراهيم 5 بالتصديق والفداء.
فمن حيث بناء الأحداث كان الشرط وجوابه موجودين:
فلّما أسلما تلّه للجبين.
ولما تلّه ناديناه.
ولكنه، سبحانه، جعلها كلها معطوفة على بعضها البعض بحرف العطف { الواو } لأن الواو تفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في زمن واحد، فإذا قلت : دخل محمد وسعيد فإن ذلك يعني أنهما دخلا في زمن واحد. فكان إخراج جواب الشرط من نسقه المعتاد إلى العطف بالواو إلغاء للمساحة الزمنية الفاصلة بين جملة الشرط وجوابها، فكانت { أسلما وتلّه، وناديناه } كلها داخلة في حكم واحد، لسرعة تعاقبها، وكأنها وقعت في زمنٍ واحد، إشارة إلى عدم تردُّده 5 في تلَّ ولده للجبين، وإلى عدم تردد ولده إسماعيل في مطاوعة والده، وإلى سرعة تدخّل القدرة الإلهية . إذا، فقد خرجت الجمل الثلاث عن البناء الهيكلي الكامل للجملة الشرطية، ولكنها دخلت في هيكلية أخرى، من شأنه أن تطرح دلالة بيانية عالية المستوى، تليق بهذا الحدث العظيم الذي سمو على كل مايعتاده الإنسان في حياته من أحداث ودلالات.
ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ
ﮋ ﭚ ﭛ ﭜﮊ
وكان مظهر تصديقه 5 للرؤيا امتثاله لما جاء فيها .
ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ
الكاف: حرف تشبيه، و { ذلك } اسم إشارة، فإلى أيّ شيء يشير ؟
ذكرت كتب التفسير أن اسم الإشارة يشير إلى ما كان من نداء لإسماعيل 5، ولكن الأمر غير ذلكن لان الإشارة لا تكون إلا لشيء قد سبق، ولا نجد فيما سبق سوى تصديق إبراهيم 5 للرؤيا التي رآها .
فاختار إبراهيم 5 تصديق الرؤيا كان فضلاً هداه الله تعالى إليه، وهذه الهداية من الله تعالى اختيار ما يرضيه سبحانه، لا يُوفق إليها إلا من كان محسناًُ، والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، كما قال 4، هم الذين قال فيهم سبحانه تعالى.
ﮋ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮊ الزمر: ١٨
فكل محسن من عباد الله تعالى يهديه الله تعالى ويوفقه إلى أن يفعل ما فيه رضى ربه ، وليس بعد هذه النعمة نعمة.
وقد وثق جل شأنه هذا المعنى في قوله الكريم.
ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﮊ الليل: ٥ – ٧
إذ أن اليسرى التي سَيُوَفق العبد إليها هي أن يكون عبداً صالحاً، من خلال الخضوع لأمر الله تعالى، وهذه اليسرى لا تتيسر إلا لعباد الله المحسنين، الذين ألزموا أنفسهم بمنهج العطاء والتقوى والتصديق بالحسنى.
ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ الصافات: ١٠٦
قيل: إن البلاء المبين هو الاختيار المبين.
وقيل: إنه هو المحنة المبينة.
ولا تعارض بين القولين، لأن المحنة الكبيرة قد تصيب الإنسان، اختباراً، أي امتحاناً لإيمانه وصبره.
فإذا جاءك أمر لا سبيل إلى التملّص منه، بأن تذبح ولدك بيدك، فإن ذلك هو البلاء الذي ليس بعده بلاء، فأراد جل شأنه أن يبتلي إبراهيم 5 في أعز مالديه، ولده إسماعيل، الذي جاء بعد طول حرمان من الولد، فما كان من 5 إلا أن أثبت بحق أنه خليل للرحمن، بصبره على البلاء، وتنفيذ أمر الله.
ولكي يبلغ الابتلاء أقصى حدٍّ ممكن له، كان لا بد من وصول السكين إلى عنق إسماعيل 5، لأن عظمة الابتلاء لا تتحقق إلا من خلال وصول الفعل إلى ذروته، فجَّر إبراهيم5 السكين على عنق ولده، ولكنها لم تقطع، لأن الذي وهب السكين قانون القطع أمرها بأن لا تقطع رقبة إسماعيل، مثلما أمر النار أن لا تحرق إبراهيم 5.
ﮋ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ
قيل: إنّ الآخرين هم الأمم اللاحقة.
ولكنني أراها تدل فقط على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لسببين.
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ نحن الآخرون الأولون يوم القيامة } رواه مسلم.
أي نحن آخر الأمم بعثاً على الأرض، وأولها دخولاً إلى الجنة.
إن السلام الذي تركه رب العالمين على إبراهيم 5 يجب أن يكون سلاماً صادقاً وافياً، وهو بهذه الصفة لا يتوفر إلا في شريعة محمد التي لم يدخلها تحريف أو تزوير، فكان من مظاهر سلام{ الآخرين } على إبراهيم 5 قولنا اللازم والثابت في كل صلاة نصليها.
{ اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد } .
وفي النحو العربي لا يجوز الابتداء بالنكرة، أي أن يكون المبتدأ نكرة، إلا بمسوّغات تبرر ذلك، ومن بين هذه المسوغات أن تكون الجملة للدعاء.
فسلامٌ، مبتدأ نكرة وجاز الابتداء بالنكرة للدلالة على الدعاء.
وهذا يعني أن قوله تعالى { سلام على إبراهيم } دعاء، يعلّمه الله تعالى لعباده، فإذا ردّدناه كان ذلك دعاء منا له 5 بالسلام.
وفي قوله تعالى:
ﮋ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮊالأحزاب: ٥٦
فعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليه بأن نقول في تشهّد كل صلاة { السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته } . ولا يملك البشر من أمر السلام شيئاً، لأنه كله بيد الله تعالى، لذلك فإن سلامنا لا يخرج عن كونه دعاء وتضرّعاً إلى الله تعالى بأن يلقى السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ﮋ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﮊ
{ كذلك } إشارة إلى السلام الذي تركه رب العالمين على إبراهيم 5. أي أن الله تعالى يجزي كل من كان محسناً بأن يسبغ 5، ولكنه في الدنيا لا يكون سلاماً كسلام الأنبياء، مع أن حرف التشبيه { الكاف} يفيد المثليَّة. وذلك أمر من شأنه أن يقودنا إلى القول بأن السلام الذي ذكره جل شأنه هو السلام في الآخرة، ويدعم ذلك مجيء كلمة { سلام } اسماً، إشارة إلى عظم السلام، وسوف نفصل القول في هذا السلام، إن شاء الله عند وصولنا إلى خبر الملائكة الذين نزلوا ضيوفاً على إبراهيم 5.
وقد أشار جل شأنه إلى بعض من ذلك السلام الذي يلقيه على عباده المحسنين، في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ من أحبّ أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه } رواه مسلم
فكانت صلة الرحم من أجل القربات إلى الله تعالى، فكان من جزاء الله للواصل أن يطيل عمره، وفي تأويل آخر أن يبقى ذِكْرَه حياً طيباً في الأجيال التي تليه.
ﮋ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﮊ
كل المحسنين مؤمنون، وليس كل المؤمنين محسنين .
فذكره جل شأنه في هذه الآية في زمرة المؤمنين من عباد الله، بعد أن ذكره بالصفة الأعلى { المحسنين } مبالغة في رفع قدره ومقامه.
ﮋ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮊ
أراد جل شأنه أن يجزي إبراهيم 5 على تصديق الرؤيا فحفظ له ولده إسماعيل، ولم يقف العطاء عند هذا الحد، بل وبشره بغلامٍ آخر، يكون نبياًُ من الصالحين.
والملاحظ أن البشرى بإسحاق لم تأت في نفس الموقف الذي كان يجري فيه الذبح، بل جاءت بعد بلغ 5 من الكبر عتياً، ولم يعد لديه مطمع في الإنجاب، وقد مرّ ذكر ذلك فيما سبق.
وهذا بعني أن الفواصل الزمنية الطويلة التي تفصل بين المواقف ليست في خطاب الله تعالى شيئاً، فإذا أراد الله أن يعطف بحرف الواو، الذي يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في زمن واحد، لأن المساحات الزمنية أمام قدرة الله تعالى وإرادته تساوي صفراً....
ﮋ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ
البركة هي النماء والزيادة.
قيل إن الهاء في قوله { عليه } تعود على إبراهيم.
وقيل : إنها تعود على إسماعيل.
ولكن النظر في بناء الآية يجزم بأن الهاء تعود على إبراهيم 5 من خلال إشارتين .
مجيء الضمير { الهاء } محوراً تدور في فلكه دلالات الآيات السابقة والتي ثبت كون الضمير فيها لإبراهيم 5: إنه من عبادنا – وبشرناه ثم جاءت { وباركنا عليه } أيضاً لتدل عليه هو لا على إسماعيل
قوله { ومن ذريتهما } ورد فيها الضمير في صورة تدل على الاثنين : إبراهيم وإسحاق، لأنّ الذرية منهما ذرية واحدة، فجاء كلمة { ذرية } مفردة، لتدل على ذلك، ولو كان المقصود بالذات الثانية إسماعيل لا ابراهيم، لقال { ذريتهما } بصورة المثنى، لن ذرية إسحاق غير ذرية إسماعيل عليهما السلام
ثمّ إن البركة لها أوجه عديدة في حياة الإنسان، ومن مظاهرها في إبراهيم وإسحاق أن جعل في ذريتهما النبوّة والكتاب، فكان أكثر بني إسرائيل، ومن مظاهر البركة أيضاً أن جعل الله تعالى من نسل إسحاق أمة، هي أمة بنو إسرائيل .
ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ
{ ومن ذريتها } أي من ذرية إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، وهي الذرية التي انبثقت من إبراهيم 5، واتخذت مساراً لها من خلال إسحاق فقط دون إسماعيل عليهما السلام.
ولذلك فَهُمْ اليهود والنصارى أصحاب التوراة والإنجيل.
شهد الله تعالى عليهم بأن فيهم من هو محسن لنفسه بالإيمان والتقوى، ومنهم من هو ظالم لنفسه بالشرك والعصيان.
الفصل الثالث
بناء البيت المحرّم
بناء البيت المحرم
حملت هاجر بإسماعيل 5، فبدأت الغيرة تدبّ في قلب سارة، فها هي تلك التي كانت جارية على وشك أن تأتي بالولد الذي طال انتظاره من قبل إبراهيم5، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى تلك الغيرة بقوله:
{ أول ما اتخذ النساء المِنطق [77] من قبل أم إسماعيل، واتخذت منطقاً لتعفي[78] أثرها على سارة} رواه البخاري.
وكأن الحديث يشير إلى أن ذهاب هاجر إلى إبراهيم5 في خلوةٍ أمر محظور، من شأن سارة، إذا علمت به، أن تفسده.
وجاء الولد، وعظمت الغيرة في قلب سارة، ومن شأن استفحال الغيرة أن تزيد من تصرّف القادر في العاجز الضعيف .
البداية
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال :
أول ما اتخذ النساء المِنطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً، لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ احد، وليس بها ماء، فوضعها هنالك منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت:
يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟"
فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟
قال – نعم.
قالت:- إذن ، لا يضيعنا.
ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، ليستقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه:
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ إبراهيم: ٣٧
وجعلت أم إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال يتلبط[79] فانطلقت، كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي رفعت طرف درعها[80]، ثم سعت سَعْي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم { فذلك سعْى الناس بينهما }، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، قالت : صه. تريد نفسها، ثم تسمعّت، فسمعت أيضاً، فقالت: قد أَسْمَعْتَ إن كان عندك غواث[81] فإذا هي بالمَلَكَ عند موضع زمزم،أي بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: { يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً[82] قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها المّلَكَ : لا تخافوا الضيعة، فإنّ هاهنا بيت الله، بيني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله .
وكان البيت مرتفعاً عن الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقة من { جُرْهم } [83] أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من ريق كذاء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً[84] فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدرو على ماء لعهدنا بهذا الوادي و مافيه ماء فأرسلوا جريّأً[85] أو جرِّيين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن تنزل عندك؟
فقالت: نعم . لكن لاحق لكم في الماء .
قالوا : نعم .
قال ابن عباس، قال النبي 4 : { فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس } [86] فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشبَّ العلام، تعلم العربية منهم، وأنفسهم[87] وأعجبهم حين شبَّ، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم
وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، يطالع تَرِكَتَهُ فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا- ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت:
نحن بشر، ونحن في ضيق وشدة. فشكت إليه . قال: فإذا جاء زوجك، فاقرأي 5، وقولي له يغير عتبة بابه فلم جاء إسماعيل كأنه أَنِس شيئاً، فقال:
هل جاءكم من أحد ؟
فقالت: نعم . جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته. وسألنا كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهدٍ وشدة.
قالت: فهل أوصاك بشيء ؟
قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك قال: ذاك أبي،
وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك. فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعدُ فلم يَجْده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت:
خرج يبتغي لنا.
قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت:
نحن بخير وسعة. { وأثنت على الله } .
فقال: ما طعامكم ؟
قالت: اللحم .
قال: فما شرابكم ؟
قالت: الماء.
قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم { ولم يكن لهم يومئذٍ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه... } فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال: فإذا جاء زوجك، فاقرأي 5، ومُرِيه يثبت عتبة بابه:
فلما جاء إسماعيل، قال:
هل أتاكم من أحد ؟
قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة { وأثنت عليه } فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف، عيشنا، فأخبرته أنّا بخير.
قال: فأوصاك بشيء ؟
قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبيت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي. أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالوالد والولد بالوالد، ثم قال:
يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك.
قال: وتعينني ؟
قال: وأعينك ؟
سأل : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً { وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها }
فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر[88]فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:
ﮋ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ البقرة: ١٢٧ { رواه البخاري}
دلالات البداية
هذا ما قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن بناء البيت ومقدماته، وبالإمكان أن نتلمس في طياته الكلمات دلالات أخرى لم يُصرَّح بكلماتها:
أولاً: لم تكن هاجر رضي الله عنها على علم بنية أبينا إبراهيم 5 مرافقته في سفره ظانةً أنها ستكون معه في ذهابه وفي إيابه، ولكنهم عندما وصلوا إلى وادٍ خالٍ من كل أشكال الحياة، شرع إبراهيم 5 في الانصراف عنها وعن ولدها، فتعلقت به، ، وتريد مرافقته، ولكنه لم يلتفت إليها، وأعادت عليه السؤال، فلم يلتفت إليها ، فأدركت أن في الأمر سراً وهو الذي يجعله لا يلتفت إليها ولا إلى ولدها، سألته:
آلله أمرك بهذا ؟ فقال نعم.
فأيقنت أنه إذا انصرف عنها إبراهيم، فإن الله باقٍ معها، فقالت بإيمان وتسليم: إذا لا يضيعنا.
فقد كان وضع إسماعيل وأمه في هذا المكان أمراً من الله تعالى. ولم يكن هذا الأمر خلواً من الحكمة العظيمة التي قدرها جل شأنه لهذا الغلام وذلك المكان، سبحانه وتعالى، وقد كان وجود إسماعيل 5 في هذا المكان اللبنة الأولى التي بُدئ بها في بناء صرح عظيم، اسمه محمد صلى الله عليه وسلم ، فانبثق الماء في الوادي، فَسَرت فيه الحياة في ذلك الموضع ليس انبثاق الماء، بل الذي كان من أجله الماء، محمد 4، الذي أراد له جل شأنه أن يكون مبعثه في هذه البعثة
ثانياً : قبل انبثاق الماء، كان أن نفذ الماء من سقاء أم إسماعيل، فعطشت ، وبعطشها عطش وجاع طفلها الرضيع، الذي كان يحمل في ذاته نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهل يموت الرضيع ومعه تلك النسمة العظيمة ؟
انطلقت أم إسماعيل من لهفتها وحرقتها على رضيعها تسعى بين الصفا والمروة، لعلها تجد مغيثاً، ينجدها وأبنها، وبعد أن أكملت سبعة أشواط وهي لا تعلم أنها سعت بين المكانين ذلك العدد، سمعت صوتاً، فذهبت إليه، فوجدت الماء ينبع بالقرب من ولدها، فكان في ذلك رحمة الله بها وبإسماعيل، وبالنسمة التي يحملها، وبالأمة التي ستؤمن بتلك النسمة عند انبعاثها
ومن حكمة الله تعالى ومن رحمته، أن جعل هذا الحدث مفتاحا لرحمته إلى يوم القيامة، فجعله ركناًُ من أركان الحج. فقال:
ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮊ البقرة: ١٥٨
فإذا سعيت بينهما فإن الله تعالى سيشكرك، وشكر الله تعالى ليس كشكر البشر، على اختلاف هيئاتهم وطباعهم، فإذا أراد ملك من الملوك أن يشكرك، فإنه لن يكتفي بكلمة الشكر، بل سيرفقها بقدر من العطايا والنعم يتناسب مع قدره كملك، ومع قدر ما يملكه، فما بالك إذا كان الشاكر رب العالمين، الذي له الخلق والأمر وبيده خزائن السموات والأرض ؟
إن أم إسماعيل سعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ومع نهاية السعي تحققت الرحمة لها والطفل الرضيع، وكذلك هو الشأن مع حجاج البيت وعّماره، إذا فعلوا ما فعلته أم إسماعيل، فإنهم سيجدون في نهاية الشوط السابع الرحمة ، قال تعالى
ﮋ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﮊ الأعراف: ٥٧
ففسِّرت الرحمة بالماء
فكانت نهاية السعي رحمة بأم إسماعيل ورضيعها، تحلَّت في تدفق الماء العذب المبارك إلى يوم القيامة، ورحمة بالحجاج والعمار تتجلّى في المغفرة والتوبة من الله تعالى، وفيما لا يعلمه إلا الله تعالى، مما ينطوي في قوله.
ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮊ
ولقد قدّر الله تعالى لهذا الماء أن تبقى آثار الرحمة فيه إلى يوم القيامة، وذلك من خلال مظهرين:
بقائه متدفقاً إلى هذا الزمان، بدون وجود أدنى احتمال لا نقاطعه أو نقصانه
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ ماء زمزم لما شُرب له } رواه الدار قطني عن ابن عباس
فإذا شربته للعلاج شفيت، وإذا شربته للجوع شبعت ، فإذا شربته السِّمَن سمنت..ألخ وقد ثبتت هذه الحقيقة من خلال مسارين:
صحة هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما روي عن بعض السلف الصالح في هذا الباب:
قال أبو ذر رضي الله عنه : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسّرت عُكَني[89] وما أجد على كبدي سَخْفة جوع [90]
وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي، وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلْتُ الطواف في ليلة ظلماء، فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج، فذكرت هذا الحديث، فدخلتُ زمزم فتضلّعت[91] من، فذهب عني إلى الصباح[92]
ثالثاً: قوله 5 لوالده إسماعيل: { إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً } وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها .
يشير إلى أنه 5 شرع في بناء البيت المحرّم بأمر من الله تعالى، وإلى أن البيت لم تكن له آثار ظاهرة للعيان ترشده إلى أساساته، سوى أن موضعه من الأرض كان مرتفعاً عّما سواه، فكيف أنجز أبو الأنبياء ما أمره به ربُّه ؟
الآيـات
ﮋ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ الحج: ٢٦
إذ : ظرف لما مضى من الزمان، أي واذكر إذ بوّأنا، بمعنى بيناً فالإظهار لمكان البيت كان بقدرة الله تعالى، إذ لم تكن له علامة على الأرض تظهره، فقيل : إن الله تعالى أبان لإبراهيم مكان البيت بريح أرسلها، فكنست مكان البيت، فبناه على أُسِّه القديم[93]
وقبل ذلك لم يكن 5 يعلم مكانه بالتحديد، ولكنه كان يعلم أن ذلك الوادي هو المكان الذي يشتمل على بيت الله الحرام، ويؤيد ذلك قوله بعد أن ترك زوجه هاجر وولده إسماعيل :
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮊ إبراهيم: ٣٧
فلم يكن للبيت من أثر أو بناء يدل عليه، ولم يُشرع في بناء إلا بعد أن بلغ إسماعيل 5 السعي مع أبيه .
ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ
أنْ : تفسيريه . أي: قائلين له { أن لا تشرك ...}
واقتران النهي عن الشرك بإقامة البيت مؤشر على أن إتيان الذنب في الحرم أخطر أثراً على المرء من إتيانه بعيداً عنه. فإذا كان الشرك بالله أعظم الذنوب على الإطلاق في كل بقاع الأرض، فإنه في الحرم أعظم خطراً وإثماً.
وفي ذلك أيضاًَ إشارة إلى أن بقاء البيت في مكانه مرهون بتوحيد الله تعالى، فإذا انحرف البشر إلى الشرك بالله في أنان الحرم، فسوف يكون ذلك سبباً لزواله من مكانه بقدرة الله تعالى، ومما يشير إلى ذلك موقفان:
مما ورد في معرض تفسير الآية التي نحن بصددها:
إن البيت رفع إلى السماء أيام الطوفان، وكان من ياقوته حمراء[94]
ولم يكن الطوفان إلا بعْد أن دعا نوح 5، قائلاً،:
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊ نوح: ٢٦ – ٢٧
وهو 5 لم يدعُ إلا بعد أن لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله تعالى، فلم يجد منهم إلا الإعراض والإصرار على الكفر، فاستحقوا بذلك العقاب والعذاب، فرُفع البيت قبل نزول العذاب، إشارة إلى كرامة البيت، وإلى أن وجوده على الأرض لا يجتمع مع نزول العذاب
ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ الحج: ٢٦
التطهير لا يكون إلا من النَّجس والدنس والشرك بالله تعالى نجس :
ﮋ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﮊ التوبة: ٢٨
وإضافة البيت إلى الله تعالى في قوله { بيتي } إشارة إلى قدسية ذلك البيت، والخصوصية التي له، والتي لا يملكها أي مكان في الأرض سواه، حتى أن المساجد ذاتها لم يَردْ ذكرها إلا بقوله { مساجد الله } وحتى عند ما ذُكرت بكلمة بيوت، جاءت خلواً من ياء المتكلم :
ﮋ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﮊ النور: ٣٦
وكذلك ناقة صالح 5 ورد ذكرها بقوله
ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊ الأعراف: ٧٣
وكأن إضافة الشيء إلى الذات بياء المتكلم تجعله أكثر لصوقاً بالذات مما لو اضفناه إلى اسم الذات.
ﮋ ﮀ ﮊ فعل أمر، فاعله ضمير مستتر، تقديره { أنت }، يعود على إبراهيم 5، وهذا يعني أن تطهير البيت من الشرك بالله منوط 5، فماذا فعل في أمر التطهير هذا ؟
إن إبراهيم 5 لم يملك أن يطِّهر قومه من عبادة الأصنام، فهل يستطيع أن يطهر البيت من الشرك بالله في ظل عدم قدرته على هداية الناس إلا بأمر من الله تعالى ؟
إن إرادة التطهير لدى إبراهيم 5 لم تكن ذات مسار واحد، مثلما هو الحال لدى البشر جميعاً، فقد كان لها طريقان:
الإرادة التي يجدها تتجسد في قدراته الجسدية، وهو حيّ يرزق، فيما يأتيه من فعل وقول.
وإرادة أخرى يفوض ربه في تحقيقها، من خلال التوجه إليه بالدعاء، وهو يعلم أن الله سيستجيب لدعائه، فقال.
ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ إبراهيم: ٣٥
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ إبراهيم: ٣٧
فكانت إرادة التطهير الباقية إلى يوم القيامة هو التودّ. بالدعاء إلى الحي الذي لا يموت، قيوم السموات والأرض، ليجعل البيت طاهراً من الشرك بالله، وعامراً بالصلاة له سبحانه.
ﮋ ﮂ ﮊ الذين يطوفون حول الكعبة المشرفة .
ﮋ ﮃ ﮊ قيل: هو المقيمون في مكة، وعند من قال بأن القائمين هم المصلون، كان في ذكر الركوع والسجود من بين سائر أركان الصلاة إعلاء لقدرهما عند الله تعالى .
وفي هذه الكلمات نلاحظ ما يلي :
قدّم جل شأنه { للطائفين } على الفريقين الآخرين، وفي ذلك إشارة إلى أن الطواف بالبيت أعلى شأناً وأجل قدراً . فكان من شروط صحّة الصلاة أن تكون مستقبل البيت الحرام، ولم يكن من شروط صحة الطواف أن تمِّه له بالصلاة.
لا نستطيع أن نسلم أن { القائمين } هم المقيمون في مكة، وذلك من خلال النظر إلى مسار الفريقين الآخرين، اللذين لا يخرجان عن كونهما مظهرين من مظاهر عبادة الله تعالى، فكان من اللازم أن تكون مثلهما، مظهراً من مظاهر العبادة. وليس من السائغ أن تكون الإقامة في مكة شكلاً من أشكال العبادة التي أمر بها الله تعالى في كتابه الكريم، لأن فيهم من هو منصرف عن طاعة الله وعبادته.
فمن هم { القائمين } ؟
في موضع آخر من كتاب الله، وردت نفس الكلمات، بنفس الترتيب مع استبدال كلمة { القائمين } بـ { العاكفين } .:
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ البقرة: ١٢٥
ومن خلال المقابلة بين الكلمتين نجد أنهما يشتركان في مسار واحد. عكف على الشيء : أقبل عليه مواظباً لا يصرف عنه وجهه.
والقيام على الشيء هو الإقبال عليه، وعدم الانصراف عنه ورعايته، وكذلك هو المعتكف يحبس نفسه في البيت الحرام على طاعة الله، فهو في اعتكافه وبقائه في المسجد يؤدي عبادة جليلة لما فيها من مجاهدة للنفس بالانصراف عن الخروج إلى الحياة والناس، والاقتصار على القيام في بيت الله .
ب- ﭧ ﭨ ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ الحج: ٢٧
قال ابن عباس وابن جبير: لمِّا فرغ إبراهيم 5من بناء البيت، قيل له: أذّن في الناس بالحج. قال: يا رب، وما يبلغ صوتي ؟ يأيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت، ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحُجّوا. فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك[95]
ﮋ ﮇ ﮊ الأذان هو رفع الصوت بالدعوة إلى أمر ما، ومنه الأذان للصلاة . فقد أره جل شأنه برفع الصوت عالياً، داعياً الناس إلى أن يحجوا، أي يتصدوا بيت الله الحرام في الإطار الذي أمر به جل شأنه.
ﮋ ﮉ ﮊ تشمل جنس الناس جميعاً، من كان حاضراً النداء، ومن كان غائباً، وليس هذا فحسب بل وكل إنسان يولد على هذه الأرض إلى يوم القيامة.
وهاهي آخر الأمم، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تلبي أذان الله تعالى، الذي أجراه على لسان إبراهيم 5، فتقول : لبيك اللهم لبيك
ﮋ ﮋﮊ جعل، جل شأنه، الإتيان لإبراهيم 5 بينما هو في الحقيقة إتيان البيت الحرام. فقيل إن في هذه الصياغة تشريفاً لإبراهيم 5، ولا اعتراض على ذلك، فهو قول سليم، ونضيف إليه:
إن الله تعالى أراد أن يُعلى من قدر نبيه إبراهيم 5، فجعل حج البيت مجيئاً له، ليكون حاضراً في واقع الناس إلى يوم القيامة وبقوله { يأتوك } يحق لكل مسلم بحج بيت الله أن يعلن أنه ذاهب إلى إبراهيم 5، لكن حضور يأخذ حقيقة وجودية أخرى غير الحقيقة المعهودة في الحياة الدنيا، أشار إليها خليل الرحمن بقوله:
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﮊ إبراهيم: ٣٦
فإذا لبيت أذانه 5 تكون من تبعه، وبإتباعك له تكون منه، فإذا كنت منه، فلن يصيبك إلا ما يصيبه هو، وكأنك بضعة منه .
ﮋ ﮌ ﮊ جمع راجل، وهو من يأتي سعياً على قدميه.
ﮋ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ
الضامر: هو البعير المهزول الذي أتعبه السفر
ولكن الضامر قد يكون حصاناً وذكر الضمور هنا، لأن الإبل والخيل الضامرة أقدر على قطع المسافات الطويلة والصبر عليها.
ﮋ ﮐ ﮊ النون هنا نون النسوة، وقد أُسْنِد الإتيان إليها، بينما جاء الضمير في الفعل الأول { يأتوك } للدلالة على الحجاج، فعلى من تدل نون النسوة ؟
المقصود بالضمير هو الإبل، تكرمةً لها، لقصدها الحج مع أربابها .
وهناك من ألغى كونها نون النسوة ، فجعلها النون التي يُرْفع بها الفعل، وهي قراءة عبدالله بن مسعود، الذي قرأ هو وأصحابه { يأتون } وهي قراءة ابن أبي عبلة والضّحاك، والضمير فيها { الواو } يعود للناس [96]
وهناك من قال إن { رجالاً } هم الذكور من الناس، لتكون بذلك نون النسوة داَّلةً على النساء. وهو الرأي الأكثر استقامة من جعلها تعود على الإبل، لأن سياق الآية يتحدث عن الناس، لاعن الإبل، ولأنه لا حكمة في إقحام الإبل في فريضة الحج، وفي جعلها تستجيب لأذان إبراهيم 5.
ﮋ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮊ
الفج: الطريق الواسعة والعميق: معناه البعيد، وبذلك تدخل كل بقاع الأرض في الفج العميق.
ج_ قال تعالى: ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ آل عمران: ٩٦ – ٩٧
ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: المسجد الحرام. قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : المسجد الأقصى . قلت: كم بينهما ؟ قال : أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ.
فالأولية في الآية لا تجعل قبل هذا البيت بيتاً.
ﮋ ﮜ ﮊ بكة ومكة علم للبلد الحرام، وهما لغتان فيه [97]
ﮋ ﮝ ﮊ البركة هي النماء والزيادة والخير الوفير .
فقد جعل الله تعالى هذا البيت عامراً بخيري الدنيا والآخرة.
ومظاهر هذه البركة، التي جعلها جل شأنه حاضرة في البيت الحرام عديدة ومتنوعة، ليس المجال مجال استقصاء لها، إنما يكفينا منها في الموضع شاهدان ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وزاد ابن ماجه في رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه:
{ وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه }
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ ماء زمزم لما شرب له } رواه ابن ماجه .
وكنا قد ذكرنا قبل صفحات. وسيأتي ذكر المزيد من الشواهد على هذه البركة في الصفحات التالية، إن شاء الله .
ﮋ ﮞ ﮟ ﮊ تضافرت كلمة { العالمين } مع كلمة { للناس }، لتؤكد أن البيت الحرام جعله اله تعالى رحمه وهدى للناس جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، فمن أراد الهداية فإنها في الكعبة المشرفة، ليس في ذاتها مباشرة، إنما فيما تحقق على الأرض بسبب وجودها. فقد أراد جل شأنه لإبراهيم 5 أن يكون أباً للأنبياء، وأن تكون دعوته موجّهة للعالمين قاطبة، فأمره ببناء البيت المحرّم وأبان له موضعه، فكان بناؤه سبيلاً لنزول الرسالات من السماء، ومن ثمّ هدايتهم، إلى أن اختتمت هذه الرسالات بأعظمها وأكملها، وهي التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم
ومن بين القرائن التي تشير إلى الارتباط الوثيق بين الهداية ووجود البيت، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإذا انعدمت الهداية في الأرض، كان ذلك سبباً لرفع البيت لأنهما توأمان، فإذا خلت الأرض من أحدهما، خَلَتْ من الآخر
ﮋ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮊ آل عمران: ٩٧
ﮋ ﮡ ﮊ أي في البيت .
ﮋ ﮢ ﮊ جمع آية، وهي العلامة التي تشير إلى عظيم القدرة الإلهية.
ﮋ ﮣ ﮊ جمع بينة، من بان يبين إذا ظهر وبرز، وآيات بينات: أي واضحات بالقدر الذي لا يتسنى معه الإنكار.
ﮋ ﮤ ﮥﮊ في البيت آيات عديدة، ومن بين هذه الآيات { مقام إبراهيم }، الذي أُمرنا بأن تتخذه مصلى، قال تعالى:
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﮊ البقرة: ١٢٥
وامتثل المسلمون لهذا الأمر، فهاهم بعد اكتمال طوافهم بالبيت العتيق يأتون مقام إبراهيم 5، فيصلون فيه، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
فما هي طبيعة هذا المقام ؟
إن من يذهب إلى تلك البقاع الطاهرة، يرى، قريباً من الكعبة، إطار ذهبيّ اللون، قد أشتمل على أثر قدمي إبراهيم 5 عندما شرع في بناء البيت مع ولده إسماعيل. فهل كانت هذه القدسية لمجرد بقاء أثر القدمين إلى هذا الزمان ؟
لا ننكر أن بقاء الأثر على مدى آلاف السنين آية من الآيات، ومع ذلك فإن الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى يشير إلى جوانب أخرى:
عِظَم قدر إبراهيم 5، الذي استحق به أن يكون له حضور دائم في أقدس بيت لله تعالى على الأرض، ليبقى ذكره حياً إلى يوم القيامة.
عِظَم قدر ذلك المكان، بسبب قيام خليل الرحمن فيه.
عِظَم الأجر والثواب الذي يناله في حال الامتثال لأمر الله تعالى بالصلاة فيه.
ومن بين الآيات العجيبة التي ذكرها المفسرون في كتبهم :
أنَّ الطَّائر لا يعلو البيت صحيحاً.
ومنها أن الجارح[98] يطلب الصيد، فإذا دخل الحرم تركه.
ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الحضب باليمن، إذا كان بناحية الشاَّمي كان الحضب بالشام، وإذا عم البيت كان الخصْب في جميع البلدان[99]
ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮊ
ذكر جل شأنه الدخول مجرداً من أي صفةٍ تقيده، ليشمل الفعل في طياته كل أشكال الدخول، حاجاً كان أو معتمراً وغير ذلك. ومن الشواهد على أن مجرد الدخول يحقق الأمان لصاحبه، أن مشركي مكة، بل والعرب جميعاً قبل الإسلام كانوا يأمنون على أنفسهم إذا ما وطأت أقدامهم على الأرض الحرم.
وقد ذكر لنا الأثر أن العديد من الصحابة التابعين، الذين كانوا يخشون وقوع أذىً بهم، لجأوا إلى الحرم ليأمنوا من ذلك الأذى، ومن بينهم أبو موسى الأشعري الذي انطلق إلى مكة بعد واقعة التحكيم، وعبد الله بن عباس الذي فرَّ إلى مكة بعد أن استولى على أموال بيت المال في البصرة، وغيرهما كثير.
وليس الدخول فحسب هو الذي يوفر الأمن لمن دخله، بل إن وجوده على الأرض في حدّ ذاته أمان للناس من وقوع عذاب الله بهم، وقد أشرنا إلى ذلك قبل قليل.
وأعتقد اعتقاداً جازماً أن الأمان الذي قدّره جل شأنه لمن دخله يأخذ أبعاداً أكثر بكثير مما قد قيل في ذلك، ولكنها أبعاد لم يصرّح بها رب العالمين حتى لا يتكل الإنسان على ذلك، فيترك العمل,
وفي قوله تعالى { ومن دخله كان آمناً } نجد مسارين في الدلالة، كلُّ منهما تحتمله صياغة الآية:
إن من يدخل البيت الحرام تحققت له كينونة جديدة غير تلك التي كان عليها قبل دخوله الحرم، فقد أصبح آمناً، مدّة بقائه في الحرم، فإذا غادر الحرم زال عنه ذلك الأمن لخروجه من إطاره.
أما المسار الثاني الذي تحتمله الصياغة فهو أن من دخله تحققت له كينونة جديدة وهي أنه أصبح آمنا أبداً سواء أبقى في الحرم أم غادره، وجاء قوله إثر ذلك {ولله على الناس حج البيت ليحدِّد هيئة الدخول التي تحقق الأمن اللازم لصاحبة، وهو أن يدخله حاجاًَ، ثم جاء قول صلى الله عليه وسلم
{ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد
ليخبرنا أن صاحب الحج المبرور سوف ينال الأمن الحقيقي، وهو نجاته من العذاب يوم القيامة ودخوله إلى الجنة. وأما مجرد الدخول إليه فإنه لا يحقق الأمن لصاحبه، ويشهد على ذلك أن العددين من الذين لجأوا إلى الحرم لم، يسلموا من القتل والتعذيب قبل الإسلام وبعده، وهاهو عبدالله بن الزبير يقتله جنود الحجاج بن يوسف الثقفي في الحرم، ويصلبونه وهو الذي لقب نفسه بـ { العائذ } ، أي المستعيذ بالحرم من أن يصيبه أحد بمكروه.
ثم إن الأمن الآية لم تقيده كلمة من الكلمات بالدنيا أو بالآخرة، ما عداه قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } ، ولكن الناس فهموا { آمنا } من مؤشرين:
ما سنه الله تعالى للناس في كتابه الكريم، إذ جعل الشهور اثني عشر شهراً، منا أربعة حرم، فكان العرب يأمن بعضهم بعضاً في هذه الأشهر
المشاهدات التي رأوها من أحوال الحرم، ومن بينها ما ذكرناه قبل قليل في تأويل آيات البيت، وأعظم تلك المشاهدات ما كان من أمر أبرهة الأشرم الذي أهلكه الله تعالى هو وجيشه عند ما أراد هدم البيت الحرام.
ولكن هل هذا هو الأمن الذي أراد جل شأنه لمن دخل غلى بيت الحرام ؟
إن الله تعالى عندما يخبرنا بأن الأمن قَدَر لمن دخل بيته المحرم، فإنما يسبغ عليه آمناً من فيض قدرته ورحمته، فإذا فهمنا الأمن بالمعنى الذي تداوله الأولون واللاحقون، فما قَدَرنا الله حقّ قدره، وهو الذي إذا أعطى جزيلاً بالقدر الذي يشهد له بالعظمة والجلال.
ثمّ إن الأمن في الدنيا ليس شيئاً، ليكون جزاء من الله لمن عظّم بيته، وهل في الدنيا من أمان، وهي التي جعلها الله تعالى دار ابتلاء ؟
إن الأمن الذي يليق بذات الله تعالى، ويليق به أن يكون جزاء لمن عظّم بيت الله الحرام، هو الأمان من عذاب النار يوم القيامة، صرّح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }
ولذلك جاء قوله تعالى بعد ذكر الأمن :
ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﮊ
اللام في قوه { ولله } لام الإيجاب والإلزام، ثمّ أكّده بقوله { على } التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان علىَّ كذا، فقد وكَّده وأوجبه. فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته[100]
ومن خلال هذا التشديد في الصياغة، نفهم أن الله تعالى أراد أن ينبه عباده إلى ما في الحج من قدسية، وبالتالي إلى أفضل العظيم الذي يتناسب مع هذه القدسية، وهو ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الحج المبرور.
ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﮊ
إن اقتران هذه الكلمات بفرض الحج في آية واحدة، وفي سياق دلالي واحد، يشير إلى أن من انصراف عن حج البيت وهو قادر عليه استحق أن يوصف بأنه كافر.
ولكن كيف سكون كافراً وهو يشهد الشهادتين ؟
نظر الأولون إلى هذه الآية، ففهموا منها كفر من ترك الحج، ولكن فهمهم هذا اصطدم مع الشهادتين، فجاءت أقوالهم لا هنا ولا هناك، وإليكم بعضاً مما نقل عنهم:
قال ابن عباس: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً.
وقال الحسن البصري: أن من ترك الحج، وهو قادر، فهو كافر.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعثه رجالاً إلى الأمصار، فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج، فيضربون عليه الجزية.
وقال سعيد بن جبير: لو مات لي جار، له مَيْسرة، ولم يحج لم أُصَلِّ عليه.
وقد روي الترمذي عن الحارث عن علي: قال: قال صلى الله عليه وسلم : { من ملك زاداً وراحلة، تُبلِّغه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً...}[101]
ولكن الحديث ضُعِّف من قبل رواته، ولذل كان من الأحاديث الضعيفة، وهذا يعني إثبات عدم كفر من انصرف عن حج بيت الله وهو قادر عليه ومع ذلك نجد من الصحابة والتابعين من يلمِّح غلى كفر من ترك الحج بدون أن يصرِّح به
فهل من مخرج في هذه القضية ؟
إن الذين ينصرفون عمّا فرضه الله تعالى على عباده رجلان:
رجل ترك الفرض كسلاً وتفريطاً، وهو مقر به، لا منكر له
ورجل تركه منكراً له .
ولا أعتقد أن أحداً يجرؤ على أن يسّري بين الرجلين. فالثاني كافر بالإجماع، لأنه أنكر شيئاً معلوماً من الدين علم ثبوت وتبين، وأما الثاني فإنه لم ينكر ذلك الفرض، ولكنه استسلم لهوى نفسه، فإذا مات ولم يُؤدِّ الفريضة، فهل نصفه بأنه كافر، وهو لم ينكرها في حياته ؟
لقد أراد جل شانه أن يهدي عباده إلى فداحة التهاون في أداء الحج، فذكره بلفظ الكفر، ولكنه كفر لا يُخرج الإنسان من ملّة الإسلام، بدليل أن الله تعالى لم يجعل جواب الشرط وعيداً أو عذاباً، بل قال { فإن الله غني عن العالمين }، ليجعل لفريضة الحج مساراً آخر غير مسار بقية الشرائع، التي ذكرها جل شأنه مقرونة بالثواب والعقاب.
إن الله تعالى هو أرحم الراحمين، فشرع لعباده من الطاعات ما يكون باباً لاتساع الرحمة الإلهية، فقال في حديث قدسي: { كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله بقول الله: إلا الصَّوم، فإنه لي وأنا أجزي به } رواه مسلم
الحج حقاً واجباً له على عباده، وديناً له، يطالبهم به. فإذا أداة المرء فإن الجنة هي ثوابه المرتقب، وإذا لم يؤِّده ، فلا يظن أن الانصراف عنه سيؤثر عليه سبحانه لأنه غنيّ عن العالمين .
فلم يقل جل شأنه: ومن كفر فإن الله شديد العقاب، أو: فإذا الجحيم هي المأوى، لأن الكفر المذكور لا يورد صاحبه عذاب النار فهو كما قلنا، ذكر بلفظ الكفر تهويلاً لترك الحج، الذي لا يجعل صاحبه آمناً يوم القيامة، ويؤيد ذلك ما ورد عن رسول الله 4
{ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }
فذكر تركه بلفظ الكفر إشارة إلى أن ذلك قد يجعل الإنسان عرضه للوقوع في شر أعماله، التي لا ينجيه منها إلا الحج المبرور .
قال تعالى
ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ البقرة: ١٢٤ – ١٢٥
ﮋ ﮥ ﮦ ﮊ الابتلاء : الامتحان والاختبار.
ﮋ ﮩ ﮊ اختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال:
هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهماً، عشرة منها في سورة براءة { التائبون العابدون } إلى آخرها، وعشرة في الأحزاب: { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخرها، وعشرة في المؤمنون { قد أفلح المؤمنون } إلى قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون }.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ما ابتلي الله أحداً بهنّ فأتمهن إلا إبراهيم 5.
المقصود بالكلمات: الأمر والنهي .
وقيل: ذبح ولده .
وقيل: بأداء الرسالة .
وعلق القرطبي على ذلك قائلاً: والمعنى متقارب .
وروي عن ابن عباس أيضاً: ابتلى الله تعالى إبراهيم بالطهارة، خمس في الرجس وخمس في الجسد، فأما التي في الرأس فهي قصّ الشارب، والمضمضة، والاستنشاق والسواك، وفرق الشعر. وأما التي في الجسد، فتلقيم الأظافر، وحلق العانة والاختتان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء[102]
ورد في صحيح مسلم عن رسول الله 4 في شأن إبراهيم 5:
{ إنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم }[103]
ومن الثابت في العقيدة الإسلامية أن الابتلاء من الله تعالى للعباد لا يتحقق إلا من خلال الأوامر والنواهي، فكان أن ابتلى الله تعالى إبراهيم5 بالتشريعات التي أنزلها عليه، وكان من أشدها وطأة الأمر بذبح ولده، فأتّم إبراهيم 5كل ذلك، إذ أن تمام الكلمة هو تحقيق مضمونها.
فكل ما ألقاه جل شأنه من كلمات إلى إبراهيم 5يدخل في إطار الكلمات، فكان جزاء إتمامه لها، والامتثال لما فيها أن جعله الله للناس إماماً .
ﮋ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮊ
الإمام هو القدوة.
فلم يكن إبراهيم 5قبل هذا الخطاب إماماً للناس، فابتلاه اله تعالى بكلمات، فأتمهن، فأصبح بإتمامه لها مؤهلاً لأن بكون كما أراد له جل شانه { إماماً للناس }.
وقد أكد جل شانه هذه الإرادة بأداتين:
حرف التوكيد { إن }
استخدام { جاعلك } بدلاً من الفعل { أجعل } لأن الاسم يفيد الثبات والدوام
ﮋ ﯓ ﯔ ﯕﮊ
لقد كان إبراهيم 5 موضوعياً، فل يطمع أن تكون ذريته جميعاً أئمة للناس، فرجاً من الله تعالى أن يكون بعض من ذريته أئمةً للناس، لأن من تفيد التبعيض.
والذرية هم الأنباء، ولا تقف عند الأنباء المباشرين فقط، بل تمتد إلى آخر الزمان إن كان للذرية بقاء، فكان من ذريته إسماعيل وإسحاق وكلٌّ منهما كان نبياً، ومن ذريته محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تعالى إماماً للعالمين، فكل الأنبياء من بعده كانوا من ذريته.
ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ
وكما يقولون في البلاغة العربية { وبضدّها تتميز الأشياء }، فإن الله تعالى نفي أن ينال عهده الظالمين، أما المحسنون فإنهم لا يُنْفى عنهم ذلك. بمعنى أن الله لا يلقى
عهده إلى الظالمين، بل يلقيه إلى المحسنين منهم.
وفي ذريته 5 كان هناك المحسنون وكان الظالمون:
ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ ا لصافات: ١١٣
ﮋ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ البقرة: ١٢٥
ﮋ ﯠ ﮊ الموضع الذي يُثاب إليه، أي يُرْجع إليه .
ولا يكون الرجوع إلى الشيء إلا بعد الانصراف عنه، وهذا يعني أن زائر البيت إذ يزوره لأول مرة، إنما هو راجع إليه، فمتى كان فيه، لتكون زيارته مثابة ؟
ورد في كتاب الله تعالى قوله { إليه ترجعون } إشارة إلى أن الخلق كانوا في كنف الله تعالى وعندما وقعت المعصية أنزلهم، إلى الأرض، فإذا قامت القيامة كان الرجوع إلى الله.
ولكن المتتبع للأثر يجد أن الذي كان في حضرة الله تعالى بدايةً كان أبانا آدم 5، الذي أنزله الله تعالى إلى الأرض، ثم آماته، ويوم القيامة يُرْجعه الله إليه، فكيف جاء الرجوع منسوباً إلى الخلق أجمعين، مع أن حادثة الانصراف كانت لذاتٍ واحدة ؟
إن ذرية آدم 5 كلها كانت في صلبه من خلال عدَّة مسارات .
أن تكون في ظهره حقيقة، وهو ما نجده واقعاً بعد نزوله إلى الأرض، قال تعالى.
ﮋ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮊ الأعراف: ١٧٢
ومما قيل في تفسير ذلك: إن الله تعالى مسح على ظهراً أبينا آدم 5 فنزلت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وجعل لها إدراكاً ومنطقاً، لتدرك ذات ربها، وتشهد له سبحانه بالإلوهية والربوبية.
أو أن ذريته 5 كانت حاضرة فيه من خلال النظر غلى أن ذاته 5هي الذات الكلية، وذريته التي انبثقت منه لاحقاً، ما هي إلا أجزاء منه 5، والجزء يلحقه ما يلحق الكل أو الأصل .
أو أن وجود هذه الذرية كان وجوداً علمياً، أي كائناً في علم الله على هيئة لا يعلمها إلا الله تعالى، من عند الله تعالى في صلب آدم إذ أُنزل إلى الأرض.
ثلاث رؤى تحاول أن تفسر معنى الرجوع إلى الله تعالى، وأما الرجوع إلى البيت الحرام، فقد قيل إن الميثاق الذي أخذه جل شأنه على ذرية آدم كان في مكة أولاً، وقيل إن هذا الميثاق أودع في الحجر الأسود.
وبعد أخذ العهد والميثاق على الذرية أودعها جل شأنه في صلب آدم من جديد، ومن ثّمّ بدأ التناسل والتكاثر، فتفرق الأبناء في الأرض المختلفة جيلاً بعد جيل، وإلى هذا الزمان، فإذا أراد أحد الأبناء أن يقصد بيت الله حاجاً، فقد حقّق الرجوع، ولكن في صورةٍ أخرى غير تلك التي كان عليها غذ كان في أكناف البيت العتيق عنه ما كان في { عالم الذّر } والله أعلم
ﮋ ﯧ ﮊ سبق أن أشرنا إلى ذكر { الناس }، وقلنا أن الخطاب بها في كتاب الله تعالى يتوجّه إلى من لم يؤمن بوحدانية الله تعالى، وأما الذين آمنوا، فإنه الخطاب لهم يكون بـ{ الذين آمنوا }.
ولكن مسار كلمة { الناس } في قصة أبينا إبراهيم 5 يختلف عن ذلك، ولكي تتضح الصورة أكثر أورد لكم المواضع التي ورد فيها ذكر الناس.
ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮊ
ﮋ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﮊ إبراهيم: ٣٦
ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ إبراهيم: ٣٧
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﮊ آل عمران: ٦٨
ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮊ آل عمران: ٩٦
ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ الحج: ٢٧
ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ المائدة: ٩٧
أولاً: قال تعالى
ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﮊ آل عمران: ٦٧ – ٦٨
إن كلمة { أولى } جاءت على صيغة أفعل التفصيل، ولا يكون التفاضل إلا في صفة مشتركة بين طرفين أو أكثر، وهذا يعني أن ولاية أهل الكتاب لإبراهيم 5، والأكثر استحقاقاً للانتساب إليه.
وهذه الآية تقودنا أيضاًَ إلى أن الدين عند الله تعالى ليس يهودياً ولا نصرانياً بل الإسلام .
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﮊ آل عمران: ١٩
فقد كان أنبياء الله جميعاً مسلمين، وهاهو يعقوب 5 يوصي أولاده:
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﮊ البقرة: ١٣٢
فالذين سرت عليهم صفة { اليهود } في هذا الزمان وفي الأزمان السابقة، كانوا في الأصل مسلمين، ولكن النفوس المريضة حرَّفت الدين، وزورت الحقيقة ، فاستبدلوا صفة الإسلام باليهودية والنصرانية.
فاعتراف أهل الكتاب بإبراهيم 5، والإصرار على جعله أصلاً لهم، يعطيهم قدراً من الإيمان، ولو كان ضئيلاً، ومن أجل ذلك كانت كلمة { الناس } أكثر مناسبة في مسارات نبوّة إبراهيم 5، لأنه بُعث غلى الناس كافة، لا إلى قوم بعينهم، فكان أن قَدَّر له جل شأنه أن يؤسس من أصول الدين، يكون للناس جميعاً
فلو كان الخطاب للذين آمنوا، لكانت أمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي المعنية بذلك الخطاب، ولكن ذكر الناس، ليكون الخطاب موجهاً للخلق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم ومشركهم.
ثانياً: وباستحضار الكلمات التي ذكرت عند تأويل كلمة { مثوبة } نقول :
إن إيداع الميثاق الأول في الحجر الأسود، وكون البيت الذي بمكة أول بيت وضع للناس، وكونه بذلك إرثاً للناس جميعاً، كل ذلك يجعله قياماً للناس جميعاً، أي قياماً وبقاء لأحوالهم ووجودهم على هذه الأرض.
ثم إن وضع الحجر الأسود في مكانه من البيت بعد بنائه بيد إبراهيم5، مؤشر إلى أنه 5معنيّ بالناس جميعاً، لأن ميثاق الناس جميعاً كان في الحجر الأسود.
ﮋ ﯢ ﮊ أشرنا إلى ذلك الأمن فيما سبق، فليرفع إليه.
ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﮊ
اسم مفعول من { صلى }، وهو المكان الذي يقع فيه فعل الصلاة، فخص جل شأنه هذا المكان بالأمر بالصلاة فيه، إشارة إلى أنه من أفضل الأماكن التي تتحقق فيها الصلة بين العبد وربه، بدون أن ينفي ذلك تحقق الصلة بين العبد وربه في كل بقاع الأرض، ولكن الله تعالى أراد أن يكوم نبيه إبراهيم 5 يجعل مقامه من أكثر الأماكن نفاذاً إلى الصلة به سبحانه، وإلى رحمته. فأمر العباد بالصلاة فيه، إحياء لذكره 5ورحمة بالعباد، كانت الصلاة في المقام سبباً لها.
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ
ﮋ ﯩ ﮊ العهد هو الميثاق الذي يقوم بين طرفين، فكان الأمر من رب العالمين وتنفيذ الأمر على إبراهيم 5 وعلى ولده، والأمر هو:
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﮊ التطهير لا يكون إلا من كل مظاهر الرجس والنجس، وأكبر أشكال الرجس الواجب تطهير البيت منها، الشرك بالله تعالى .
ﮋ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ
كنا قد أشرنا إلى ذلك في قوله تعالى:
ﮋ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ الحج: ٢٦
وقد ذكرنا بعضاً مما رأيناه في قوله تعالى { والقائمين } بعد الإشارة إلى ما وقع فيها من اختلاف في التأويل.
وورود الآية هنا بنفس الترتيب السابق يشير إلى أن هذا الترتيب مقصود لذاته وإلى أن قوله تعالى { والعاكفين } في هذا الموضع جاءت تفسيراً لقوله { والقائمين }
العكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء
ومن ذلك جاء العكوف في المساجد، الذي يعني بقاء المسلم في المسجد، تاركاً كل أمور الحياة خارج المسجد، والاقتصار على أنحاء المسجد عبادة له وتقرباً .
وذكر جل شأنه { الركع السجود } بعد { العاكفين} و إشارة إلى أن { القائمين } التي وردت في موضع أخر، لا تعني الصلاة، بل تعني : حبس النفس والجسد داخل بيت الله، فإذا فعل، فإنه يغالب نفسه مغالبة شديدة تقرباً إليه سبحانه ومن أجل هذه المغالبة كان تقديمها على { الركع السجود } .
الباب الرابع
صفاته 5
صفاته 5
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ النساء: ١٢٥
رأيت الابتداء بهذه الصفة، لما فيها من دلالات، تجعله 5 متميزاً عمن سواه من أنبياء ورسل، ولما فيها من كرامة لإبراهيم 5، تقصر عنها جميع الكرامات.
ولكي تتجلّى أركان هذه الصفة، كان من اللازم النظر إليها من خلال ذاتها، ومن خلال السياق الذي وردت فيه:
قال تعالى
ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ النساء: ١٢٥
ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ
استفهام إنكاري، بمعنى : لا أحد أحسن ديناًُ ممن...
ﮋ ﮔ ﮕ ﮊ معناه أخلص دينه لله، وخضع له، وتوَّجه إليه بالعبادة[104]
وللوجه علاقة بالله تعالى جليلة، أومأ إليها جل شأنه في مواضع عديدة:
ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ القيامة: ٢٢ – ٢٣
ﮋ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﮊ عبس: ٣٨ – ٣٩
فإسلام الوجه لله تعالى يعنس إسلام قلب صاحب ذلك الوجه، لأن العلاقة بين القلب والوجه علاقة وثيقة جداً، حتى أن أصحاب الفراسة قديماً، وعلماء حديثاً، يقرأون من خلال تعابير الوجه ما يدور في النفس والقلب من تلك المشاعر والأفكار التي تعتري الإنسان.
وكذلك هم من يسلمون قلوبهم لله تعالى، فإذا امتلأت تلك القلوب خشية وورعاً ظهر ذلك على الوجه أمام الله وأمام الناس، قال تعالى:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﮊ الفتح: ٢٩
{ وهو محسن } جمله حالية، وقد عرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلانسان، فقال:
{ أن تعبد الله كأنك تراه، فغن لم تكن تراه فإنه يراك } النسائي
ولأن الجملة الحالية تأتي مرافقة لصاحب الحال، كان من دلالات هذه الكلمات أن من أسلم وجهه لله لا تتحقق له هذه الصفة بحق إلا في حال كونه محسناً. بالمعنى الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ﮋ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮊ
أتباع الملة هو تطبيق ما فيها من تشريعات، وملة إبراهيم 5 هي كلمات الله تعالى التي أنزلت عليه.
ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ الأعلى: ١٨ – ١٩
ولكن هذه الصحف ليست موجودة بذاتها، وفي هذه الحالة كيف لنا أن نتبع ملة إبراهيم 5
إن ملة إبراهيم 5 هي تلك التي أنزلها جل شأنه على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى، يخاطب أهل الإسلام :
ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ الحج: ٧٨
فالدين الذي ندين به، ولم يجعل الله علينا فيه من حرج، هو ملة أبينا إبراهيم، الذي سمِّانا مسلمين من قبل أن يرانا.
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ
إن مجيء هذه الجملة تالية لقوله تعالى { ...واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } يفترض علاقة ما بين الإتباع واتخاذ إبراهيم خليلاً، فما هي سمات هذه العلاقة ؟
إن الخليل لا يرضى لخليله أن يكون كَّما مهملاً ، وليس هذا فحسب، بل إنه لله يتراجع عن أداء أي فعل فيه كرامة له. فما بالك إذا كان خليل إبراهيم5رب العالمين ؟
وقبل الاسترسال في ظلال هذه الكلمات، ينبغي أن نشير غلى دلالة { الخليل } لغوياً.
سمِّى الخليل خليلاً، لأن محَّبته تتخلل القلب، فلا تدع خللاً { أي مكاناً } إلا ملأته، هذا بالنسبة للعباد. أما إذا كان الطرف الثاني في الخلة هو رب العالمين، فيحبب أن نستغني عن بعض التعريف المذكور سابقاً، إذ لا يمكن تشبيه الله تعالى وخلّته لعبده بما يكون بين بني البشر، فقد أراد جل شأنه من خلال هذه الكلمة أن يبين لعباده إن محبته لعبده إبراهيم 5 لم يرق إلى مستواها أي بني من الأنبياء سوى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال:
{ وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً } مسلم وأحمد. وهو يقصد نفسه
قلنا في البداية أن الخليل لن يتراجع عن فعل ما يحقق الكرامة لخليله، ومن بين الشواهد التي تجلّي لإبراهيم 5 هذه الصفة:
قوله تعالى على لسان إبراهيم 5:
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮊ إبراهيم: ٣٦
إن محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال عكاشة بن محصن رضي الله عنه { منا خير فارس في العرب } وهو يقصده، فإنما كان يعني مايقول أنه رضي اله عنه يلحقه من الطهارة والكرامة ما يلحق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعندما يقول إبراهيم 5{ فمن تبعني فإنه مني } فإنه كان يعني بذلك أن من تبعه لن يلحقه إلا ما سيلحقه هو 5 يوم القيامة. ثم عن { مِنْ } في قول { مني } حرف يفيد التبعيض، بمعنى أن من تبعه 5 أصبح بعضاً منه ؟ فهل يعذب الله تعالى أَبْعَاضَ من اتخذه خليلاً ؟
قوله في الحديث الذي رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ ...يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يُبعثون، فأي خزي أخرى من أ[ي الأبعد ؟ ... فيقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك ؟ فينظر، فإذا هو بذبح ملتطخ ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار } إشارة إلى أن ذلك الذبح كان فداء لأبي إبراهيم من النار، كرامة له 5.
ثم إن الله تعالى يخبرنا بقوله { واتخذ الله إبراهيم خليلاً }، بعد الإشارة إلى أن ملَّته أحسن الملل، بأن النجاة الحقيقية من عذاب النار هي في أتباع ملة إبراهيم لأن الله تعالى أتخذه خليلاً، والخليل لا يخزي خليله بتعذيب من كان ، وتأملوا كيف رد الله تعالى الخزي عن إبراهيم لحفظ أبيه آزر من عذاب النار مع أنه لم يؤمن به في الحياة الدنيا.
فعليكم يامن آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم أن تجعلوا لإبراهيم 5 مكاناً في قلوبكم ونفوسكم، لأن في ذلك سبباً من أسباب النجاة يوم القيامة. والله أعلم.
ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ
وردت هذه الصفة في قوله تعالى:
ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ النحل: ١٢٠ – ١٢٣
الأمَّة: الرجل الجامع للخير [105]
فإذا أردت أن تمتدح شجاعة رجل والمبالغة في ذلك، فإنك نقول غنه جيش لوحده وكأنه ببأسه الشديد، وقدرته الفائقة على القتال يعادل جيشاً مما عداه .
وهذا هو المراد من قول رب العالمين في إبراهيم 5، فقد كان لِعَظم ما يملكه من إيمان وأخلاق وعبادة أمَّة لوحده. مع ملاحظة أن قول رب العالمين لم يأت من قبيل المبالغة التي يستخدمها البشر فيما بينهم، بل هو قول حقيقي، ترتّب عليه إن الله تعالى اختاره من بين أنبيائه جميعاً ليكون خليلاً له .
ﮋ ﭩ ﭪ ﮊ القنوت في اللغة أصله الطاعة، ثمّ سمِّي القيام في الصلاة قنوتاً، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ أفضل الصلاة طول القنوت } مسلم
ولا يصبر الإنسان على طول القيام في الصلاة إلا إذا كان ذا قدر كبير من الإيمان، والذي يستدعي بدوره قدراً يتناسب معه من طاعة الله تعالى، فكان 5 { قانتاً لله } أي طائعاً، قد استوفى طاعته لله. فقال فيه رب العالمين
ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﮊ النجم: ٣٧
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ
الحَنَف: الميل، ومنه رِجلٌ حَنْفاء، وَرَجلٌ أحنف، وهو الذي تميل قدماه، كل واحدة منهما إل أختها بأصابعها. وسٌمِّي إبراهيم 5حنيفاً، لأنه حنف إلى دين الله، وهو الإسلام، أي : مال إليه[106]
قال تعالى في شأن أهل الكتاب:
ﮋ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮊ البينة: ٥
فقيل في تأويل { حنفاء } : مائلين إلى الحق.
ولكن هذا التأويل يُفقد الكلمة القوة الدلالية الواجبة لها، والذي أَلْجَأ المفسرين إلى ذلك هو اعتمادهم على المعنى المتداول في اللغة. وقد اعترض البعض الآخر على ذلك التأويل، فخرجوا بالكلمة إلى دلالة أخرى أكثر انسجاماً مع السياق، فقالوا:
الحَنَف : الاستقامة، فسٌمِّي دين إبراهيم حنيفاً لاستقامته، وسُمِّي معوج الرجلين أحنف، تفاؤلاً بالاستقامة كما قيل للديغ سليم وللمُهْلِكة مفازة[107]
وقال الأخفش: الحنيف: المسلم .كان يُقال في الجاهلية لمن اختتن وحج البيت حنيف، لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت[108]
وفي هذا القول قد نجد دليلاً على أن الحنيفية كانت اسماً وعلماً على ملّة إبراهيم 5، ولذلك كان يقال: تحنّف الرجل، أي عَمِل الخيفية، مثلما يقال: تنصّر أو تهوّد إذا عمل بعملٍ النصرانية أو اليهودية. وقد سًئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأديان أحب إلى الله، قال: الحنيفية السَّمحة } رواه أحمد
فالأولى أن نخرج كلمة { حنيفاً } من إطار المعنى اللغوي الذي عرفه العرب لاحقاً في لغتهم، إلى معنى آخر قد نجد له آثاراً في اللغة التي يتكلم بها إبراهيم5 في ذلك الأوان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مامن مولود إلايواد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه... } مسلم.
ففي هذا الحديث إشارة غلى أن الحنيفية هي الفطرة التي خلق الله الناس عليها وهي الإسلام، قال تعالى:
ﮋ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﮊ الروم: ٣٠
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ
ينفي جل شأنه عن خليله صفة الشرك، بعد أن اثبت له صفة الإسلام الخالص لوجهه الكريم . ولهذا الأسلوب مسارات عديدة من بينها:
التوكيد على صفة الإخلاص لوجه الله تعالى.
إن الشرك قد يكون حاصل لدى الإنسان المسلم في بعض فعله أو قوله وهو لا يعلم، حيث أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله
{ اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل...} رواه أحمد
فجاء قوله تعالى في إبراهيم 5 { ولم يك من المشركين } مشتملاً على هاتين الدلالتين.
5- ﮋ ﭱ ﭲﮊ
{ أَنْعُم } جمع نعمة، وهي من جموع القلة، فهل كانت نِعَمُ الله تعالى على إبراهيم 5 قليلة
على العكس تماماً، فلقد كانت نعمة جل شأنه على خليله عظيمة وجليلة، ولم يكن التعبير بجمع القلة إلا إشارة إلى أن النعم التي يسبغها جل شأنه على عباده في الحياة الدنيا قليلة، لا تكاد تُذْكر أمام النعيم الأكبر الذي أعَّده لهم يوم القيامة، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سَقى كافراً منها قطرة أبداً } ابن ماجه.
6- ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ
اجتباه : أي اختاره.
فإذا اختار الله تعالى عبداً من عباده، وجعله صديقاً بيناً، وخليلاً له سبحانه، فإن ذلك يعني أن الاختيار كان قبل خلق الخلق في علم الله تعالى، فإذا أراد إخراجه إلى الحياة الدنيا، سخّر له من الظروف، والأحوال ما يحقق له معنى الاجتباء والاصطفاء، قال تعالى في شأن مريم الصدّيقة:
ﮋ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﮊ آل عمران: ٣٧
فكان حسن القبول وحسن الإثبات متجلياً في تهيئة الظروف والأحوال لمريم ابنة عمران، لتكون في الصورة التي أرادها لها سبحانه وتعالى.
ﮋ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﮊ
قيل في تأويل الحسنة:
لولد الطيب.
الثناء الحسن .
النبوة
الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم في التشهد.
ليس هناك أهل دين إلا وهم يتولونه.
بقاء ضيافته وزيارة قبره
وكل ذلك أعطاه الله إياه[109]
إن الحسنة من العبد قد يفعلها فلا يتجاوز أثرها في الجزاء عشرة أمثالها، وقد يصل أثرها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف الله ذلك أضعاف كثيرة.
فكيف إذا كانت الحسنة من رب العالمين ؟
إن أثرها سيبلغ حدّاً لا يمكن حصره، ولا يقف عند زمان بعينه، وهذا ما كان مع إبراهيم 5، الذي جعله الله تعالى أبا للأنبياء، وجعل ذِكْرَ باقياًَ، وكذلك دينه إلى الآن وإلى يوم القيامة.
وفي التأويل المذكور سابقاً قيل { وكل ذلك أعطاه الله إَّياه } لأن كل ماذكر يدخل في إطار تلك الحسنة .
ومن أجل ذلك علّمنا سبحانه أن ندعوه بقولنا:
ﮋ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﮊا لبقرة: ٢٠١
فالحسنة من الله تعالى أعظم وأجل مما تردد على ألسنة المفسرين، ويشير إلى جلالها ما قيل في تفسير حسنة إبراهيم 5، مع مراعاة كونه نبياً، وكوننا مسلمين لا أنبياء.
ﮋ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮊ
قيل في تفسير ذلك:
{ من } بمعنى مع، أي مع الصالحين، لأنه كان في الدنيا أيضاً مع الصالحين[110] إذا كان المقصود بـ{ من } المعيَّة، فلِمَ لم يقل جل شأنه { مع } ؟ إن المتتبع لكلمة { الصالحون } في القرآن الكريم يجد أنها مقصورة على صلاح الإنسان في الدنيا . ومن أجل هذا الفهم لجأ المفسرون إلى تأويل { من } بـ{ مع } وكأنه سبحانه يقول: وإنه في الآخرة لمع الذين كانوا صالحين في الحياة الدنيا.
ولكن الإصرار على دلالة { من } في الآية، يلقي إلينا دلالة غير ما سبق ذكره، وهي أن الله سيجعله من الصالحين في الآخرة، كما كان من الصالحين في الحياة الدنيا. فما هو الصَّلاح ؟
الصلاح ضد الفساد، وصلاح الشيء هو أن تتحقق له هيئة هي أفضل حالاته أو أفضل ما يُرْجى له.
وصلاح الإنسان في الدنيا من خلال المنظور الديني هو أن يكون في أفضل الحالات المرجوة في طاعة الله تعالى. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال ما يظهر منه من عمل نفسه وفي الناس وفي الوجود . فلا يتحقق صلاح الدنيا إلا من خلال ظهور أثره في المحاور الثلاثة، المذكورة قبل قليل.
وأما أن يكون إبراهيم 5 من الصالحين في الآخرة، فهذا يعني أن تظهر هيئة صلاحه في خلق الله تعالى يوم القيامة. وقد أعطانا جل شأنه ورسوله الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم مؤشرات على ذلك، من بينها:
أن الله تعالى يفتدي أباه { آزر } من عذاب النار، من خلال فعاليته 5 التي تتجلى في قوله لربه { إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون. وأي خزي أخزى من أبي الأبعد } .
قوله 5 لربه في دعاء له.
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ إبراهيم: ٣٦
إذ لم يُسْلم العصاة إلى عذاب الله، إنما أسلمهم إلى مغفرة الله ورحمته.
قوله تعالى
ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ هود: ٧٤
فقد كان يرجو صرف العذاب عن قوم كفروا بدعوة نبيهم لوط وأصرّوا على فعل المنكرات.
فإذا كان هذه حالة في الدنيا، فماذا تتوقعون منه يوم القيامة، وقد ذكر لنا جل شأنه على لسان رسوله الأعظم ما يُشير غلى كرامته عند ربه:
{ أول من يُكسى يوم القيامة إبراهيم5} النسائي وأحمد
ثم عن قوله جل شأنه { لمن الصالحين } يشير إلى أنه ليس الوحيد الذي يكون صالحاً يوم القيامة، بل هو واحد منهم، وهم هؤلاء الذين جعل الله تعالى لهم كرامة الشفاعة لمن يريدون من الناس، وأعظمهم جميعاً محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه الله صلاحاً عاماً وآخر خاصّاً، فأما العام فهو الشفاعة لدى الله تعالى لإخراجهم من عذاب الحشر، والخاص شفاعته لأمته، والتي تصل فعاليتها إلى كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ﮋ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ ا لنحل: ١٢٣
ﮋ ﮆ ﮇ ﮊ إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ
أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسير على خُطى دعوة إبراهيم 5، وأن يتبع ما فيها، وما ذلك إلا لأن ملة أبينا إبراهيم 5 هي ملتنا، وهو الذي سمّانا { مسلمين
ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ الحج: ٧٨
ﮋ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ التوبة: ١١٤
{ أوّاه } اختلف العلماء في الأوّاه، على خمسة عشر قولاً:
الذي يُكثر الدعاء.
الرحيم بعباد الله .
الموقن
المؤمن بلغة الحبشة.
المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة.
الكثير لذكر الله تعالى.
الذي يكثر تلاوة القرآن .
المتأوه من خشية عذاب الله.
الفقيه.
المتضرّع الخاشع
الذي ذكر خطاياه استغفر منه
الكثير التأوه من الذنوب
الذي يعلّم الناس الخيْر
الشفيق.
الراجع عن كل ما يكره الله تعالى[111]
لقد تعمَّدت أن أورد لكم جميع هذه التأويلات، ليتضح لكم مدى اختلاف العلماء في فهم هذه الكلمة، على العكس تماماً من كلمة { حليم } والسبب في اختلاف وتعدّد التأويلات، هو أن العلماء وجدوا أن الدلالة المعجمية للكلمة قد لا تعطيهم المعنى إلي يريدون في وصف إبراهيم 5 .
وفيما يلي، سنجتهد في فهم هذه الكلمة، وذلك من خلال الإطار العام الذي وردت فيه هذه الكلمة:
إن العلة التي ذكرها جل شأنه سبباً لاستغفار إبراهيم لأبيه المشرك، هو كونه، 5{ أواه حليم }.
قلنا سابقاً في تأويل { الحِلْم } بأنه كبح جماح النفس عن الاستسلام لحالة الغضب، أو اليأس من الآخرين. فكان في وصف إبراهيم 5 بانه { حليم } في هذا الموقع من هذه الآية إشارة إلى أنه لم يستسلم لحالتي الغضب واليأس أمام ما رآه من إصرار أبيه على الكفر، وتهديده له بالرجم والهجران.
وقد جاءت كلمة { حليم } بعد كلمة { أواه } بدون الفصل بينهما بحرفٍ من حروف العطف، إشارة إلى أنهما يشتركان في مسار واحد، ولكن الابتداء بكلمة { أواه } يشير غلى أنها الأصل الذي تولَّدت عنه صفة { حليم } .
لقد نظر أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى أصل الكلمة، فأُثر عنه تأويله للكلمة: إنه المتأوه . فمن هو المتأوه ؟
إن التأوه حالة تعبيرية، يطلقها الإنسان عندما يصل غلى ذروة الحالة النفسية حزناً أو ألماً أو وجداً. فإذا نظرت إلى الناس، فستجد أن الذين يعيشون بقلوب قاسية، تكاد ألا تسمع لهم تأوّهاً، وأما ذوو القلوب الرقيقة، فإنك كثيراً ما تسمع تأوهاتهم.
وهذا ما كان من شأن إبراهيم 5، كان كثير التأوّه، حسبما تشير إليه صيغة الكلمة، التي جاءت على وزن من أوزان صيغ المبالغة { فعّال }، ولم يكن تأوّهه، 5، خوفاً وقلقاً على نفسه، بل على من تبعه أولاً، وعلى الناس جميعاً ثانياً.
فكان الخوف على مصائر الناس يملأ قلبه حزناً، ونفسه قلقاً فيصدر منه التأوّه تلو التأوّه.
{ حليم }
إذا كانت نفسه العظيمة 5، وقلبه العامر بالرأفة والرحمة يجعله ينفث التأوّهات قلقاً على مصائر الناس، فهل تتوقع منه أن يغضب على أحد من الناس ؟
رأينا قبل قليل ردّ فعله أمام إصرار أبيه على الكفر، إذ قال له :قال تعالى؟
ﮋ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ مريم: ٤٧
ورأينا كيف أنه لمن يرض لمن عصاه من الناس إلا أن يسلمه إلى مغفرة الله ورحمته { الغفور الرحيم } ، لا إلى عذابه.
ورأينا أيضاً إصراره على جدال الملائكة الذين جاءوا لإهلاك قوم لوط، لعلّه يصرف عنهم ذلك العذاب.
ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ مريم: ٤١
لم يرد في كتاب الله تعالى الوصف بـ{ صديقاً نبياً } إلا لعبدين من عباد الله المكرمين، هما: إبراهيم وإدريس عليهما السلام، فذكر في إبراهيم ما تجدونه قبل سطرين، وفي إدريس 5:
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ مريم: ٥٦
وفي هذا النطاق من الوصف نجد ما يلي:
اقتصار الوصف بـ{ صديقاً نبياً } على هذين النبيين يشير إلى أن إدريس 5 كان له من الأثر البالغ في الأرض، ومن المقام العالي عند رب العالمين مثل ما كان لا إبراهيم 5.
تقدّم الوصف بالصديق على الوصف بالنبوة، يشير إلى أن الصدّيقية في هذا الموضع ليست كتلك التي يوصف بها غير الأنبياء، والتي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:
{ لايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً } رواه أحمد وأشار إليها عز وجل بقوله تعالى
ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮊ النساء: ٦٩
حيث ذكر الصديقون بعد الأنبياء إشارة على انهم ليسوا من فريق الأنبياء. بمعنى أن الصديقية التي تكون للأنبياء، والتي قدّمها جل شأنه على قوله { نبياً } وهو يذكر خليله إبراهيم 5، مرتبة عالية تسمو على مرتبة النبوة .
أو أن الله تعالى وصفه بالصديقية على اعتبار أنها الأصل الذي يكون عليه عباد الله المطهرين ذوي القلوب السليمة، فيختار جل شأنه منهم من يكون نبياً، فتأتي صفة النبوة لديهم بعد توفرهم على صفة الصديقية.
ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﮊ النجم: ٣٧
أشرنا إلى هذا الوصف في تأويل قوله تعالى :
ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮊ البقرة: ١٢٤
والتمام هو التوفية، أي أن تؤدي ما فرض عليك كاملاً غير منقوص. وقد أدّاه أبونا إبراهيم 5، فقال الشهادة العليا من رب العالمين في قوله { وإبراهيم الذي وفى }
ﮋ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮊ العنكبوت: ٢٧
لقد أسبغ جل شأنه فضله على إبراهيم 5، فلم يجعله مقصوراً عليه إذ كان حياً، بل جعله متواصلاً بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فجعل الله تعالى شرف حمل النبوة في ذريته 5، أي في كل من انحدر من صلبه الطاهر، إلى كان الختام بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكان الخام مسكاً.
ﮋ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮊ
الأجر لا يكون إلا جزاء على عمل ما، فكان عمل إبراهيم 5 أن آمن بالله، وبلغ رسالة ربه وأسس أركان الدين على الأرض، فذكر جل شأنه أنه آتاه أجره في الدنيا، ولم يجعله منساقاً إلى الآخرة، فاكتفى بالإخبار عنه أنه في الآخرة من الصالحين فماذا كان أجر إبراهيم 5 في الدنيا ؟
لم يكن أجره 5 مالاً، أو متاعاً من متاع الدنيا الزائل، فأنبياء الله تعالى ل تكن الدنيا أبدا هماً لهم، أو غرضاً يسعون إليه .
فكان من أجره 5 أن جعله الله تعالى خليلاًُ له، وهل فوق هذا الأجر أجر؟
وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وجعل قيام البيت على يديه ويدي ولده إسماعيل5 إلى غير ذلك مما تجدونه في هذه الكتاب من كرامات له 5.
ﮋ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮊ
فصّلنا القول فيها في الصفحات السابقة
ﮋ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮊ ص: ٤٥ – ٤٧
ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ
الأبصار متفق على تأويلها أنها البصائر في الدين والعلم، وأما الأيدي فمختلف في تأويلها[112]
أما النسفي، فقد قال في تأويل ذلك :
أولى الأعمال والفِكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزَّمْني [113] الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم[114]
ليس في جعل { الأيدي } مقصورة على دلالتها المعجمية . أي منحة يتميز بها هؤلاء الأنبياء عن غيرهم من بني البشر لأن الجميع ذوو أيدي. وهذا يحتم علينا اللجوء إلى الدلالة الرمزية، التي تدخل تحت ما يسمى بالمجاز المرسل الذي من صورة أن تذكر السبب وتريد المسبب، فذكر جل شأنه اليد ، وأراد ماكانت اليد سبباً في حصوله، وهو العطاء والكرم.
فكان إبراهيم 5وولده إسحاق وحفيده يعقوب من أولى الأيدي، أي أولى الفضل والكرم على أممهم ، مع ملاحظة أن فضل الأنبياء ليس كالفضل الذي يكون بين بني البشر، فهو فضل إلهي أجراه الله تعالى على أيديهم .
فكان لإبراهيم5 يد، بل أيادي على الناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم ولا جادة لسرد ما يشير إلى ذلك، اكتفاءً بما ذكرناه فيما سبق من صفحات هذا الكتاب.
وكأن هذا التأويل يبشر الذين آمنوا بإبراهيم 5 واتبعوا ملّته، أن تكون له، 5، أيادي عليهم، مثل فعله مع أبيه { آزر } يوم القيامة.
ﮋ ﭷ ﭸ ﮊ
أي جعلناهم خالصين، ولا يكون الشيء خالصاً إلا إذا كان تقياً من الشوائب، ولذلك كان في هذه الكلمة إشارة إلى أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام كانوا على أنقى ما يكون عليه إنسان في هذه الأرض في العلاقة مع الله.
ﮋ ﭹ ﮊ جار ومجرور متعلق بالفعل { أخلص }، فكان المظهر الذي تجلت فيه هذه الهبة.
ﮋ ﭺ ﭻ ﮊ
والدار داران : الدار الدنيا والدار الآخرة، واستغني جل شأنه عّما يبين المقصود من الدارين، لتنطوي الكلمة على الدارين كلتيهما.
{ وذكرى } من الفعل { ذكر }، والذي يعني استحضار الشيء في وعي الإنسان بعد انقضائه، وممّا يشهد لذلك أن ذكر هؤلاء الأنبياء ما يزال حياً، حتى عند أشد أهل الكتاب مشاكسته ونكراناً، ومن بين ما مّر علىّ من ذلك أنني أردت زيادة ابن عمٍّ لي في فلسطين المحتلة حيث كان أسيرا لدى بني إسرائيل، وكانوا لا يأذنون إلا لثلاثة فقط فحاولت أن أتجاوز ذلك العدد فقال لي أحدهم : فقط ثلاثة ، إبرهام وإسحاق ويعقوب.
ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ
شهادة من الله تعالى لهم بأنهم من عباد الله المخلصين، الذين اصطفاهم أي نقَّاهم من شوائب وأدناس الآدميين على الأرض .
ﮋ ﮁ ﮊ أي المتصفون بالخير العظيم الذي قدَّره جل شأنه على أيديهم في الدنيا والآخرة.
أبو الضِّيفان
الضيفان : جمع ضيف، وأطلق على إبراهيم 5 هذا الوصف، لما ورد في كتاب الله تعالى من ذكر لفعله ع الضيفان الذين نزلوا به، وقد بقيت سنته في نسله بني إسماعيل، فكانت صفة متأصلة فيهم، وكأنها عنصر من العناصر التي رُكبوا عليها .
أما حكاية ضيف إبراهيم 5 فقد وردت في كتاب الله تعالى في أربعة مواضع، وهي كما يلي:
الموضع الأول: قال تعالى
ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ هود: ٦٩ - ٧٦
الموضع الثاني: قال تعالى:
ﮋ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ الحجر: ٥١ – ٦٠
الموضع الثالث: قال تعالى.
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﮊ العنكبوت: ٣١ – ٣٢
الموضع الرابع: قال تعالى.
ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ الذاريات: ٢٤ – ٣٤
أولاً: الموضع الأول، هود
ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ
البشرى في اللغة هي الإخبار بقدوم أمر تحبه أو ترجوه، ومن خلال هذا المعنى نقول إن تأويل البشرى بإهلاك قوم لوط لا يستقيم، إذا لم يكون 5 يحب ذلك الأمر أو يرجوه، بل إنه حاول أن يرّد الملائكة عّما هم مقبلون عليه، ولم يكف عن جدالهم إلا بعد أن جاءه الأمر المباشر:
ﭽ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼهود: ٧٦
فالبشرى كانت بالولد بدليل قوله تعالى في موضع آخر على لسان إبراهيم ردَّاً على بشرى الملائكة:
ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ الحجر: ٥٤
ﮋ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞﮊ
اختلف السلام لدى الطرفين، فكان من الملائكة منصوباً، ومن إبراهيم 5 مرفوعاً، قد تكلم المفسرون في ذلكن مستندين على ما في القاعدة النحوية من دلالات، وسأورد لك شرحاً مبسطاً لهذه القاعدة، ثم أورد لكم ما قيل في تأويل الآية، وإثر ذلك كله أسجل لكم ما أجده من دلالات .
القاعدة النحوية
إن إعطاء المعنى في إطار الجملة الاسمية يجعله أكثر ثراء منه في الجملة الفعلية، فلو قلت { زيد يقرا } فإن الفعل { يقرأ } يفيد أن فعل القراءة لدى زيد متجدد ومستمر ولكنه لن ينفي مرور أوقات عليه بدون قراءة .
وأما لو قلنا { زيد قارئ } فإن الاسم يفيد الثبات، أي أن القراءة لدى زيد صفة ثابتة وغير متحولة. ولهذا كان التعبير بالاسم أكثر دلالة من التعبير بالفعل.
تأويل الآية:
ومن أجل ذلك قال المفسرون عن سلام الملائكة جاء منصوباً على تقدير الجملة الفعلية: نسلّم سلاماً، أو نلقي سلاماً أو أي شيء من هذا القبيل. وأما ردّ إبراهيم 5فقد جاء مرفوعاً على تقدير الجملة الاسمية. ليفيد بذلك أن سلامه 5 كان أوفر دلالة من سلامهم.
وأما ما نجده من إضافات، فهو كما يلي:
إن القارئ لكتاب الله تعالى يجد أن الملائكة إذا أرادوا أن يلقوا السلام على عبدٍ من عباد الله في الأرض، فإنما يلقونه منصوباً، وأما يوم القيامة فإنهم يلقونه مرفوعاً، ومن ذلك.
ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮊ الرعد: ٢٣ – ٢٤
ﮋ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﮊ الزمر: ٧٣
فلماذا يلقي الملائكة على الأرض منصوباً، ويوم القيامة يلقونه مرفوعاً ؟
إن الملائكة خلق من خلق الله تعالى، قدّر لهم جل شأنه من القوانين والقدرة والإمكانات مالا تتسع له الأرض، بمعنى: إن السلام الذي يملكونه إلقاءه على الآخرين أكبر بكثيرٍ مما تستطيع الأرض أن تستوعبه من سلام، ولذلك ألقوا سلامهم بالنصب إشارة إلى أنهم ألقوا بعضاً من سلام لا سلامهم كله، وعند مارد عليهم إبراهيم السلام ردّه بالرفع، إشارة إلى أنه ألقى كل ما يملكه من سلام يتيسر لآدمي على هذه الأرض.
أما سلام الملائكة يوم القيامة فإنه جاء بالرفع إشارة إلى أنهم يلقون على المؤمنين كل مالديهم من سلام، لأنّ طبيعة المكان تحتمل ذلك، وهي الجنة، وكذلك طبيعة الإنسان، الذي يكون في نشأة أعلى وأسمى من نشأة الأرض
ﮋ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﮊ
في ذلك من دلائل الكرم البالغ لديه 5 مالا يُعْرض عليه:
ﮋ ﯤ ﮊ العجل هو صغير البقر، قبل أن يصبح نوراً، والحيوان إذا أُكِلَ قبل أن يبلغ كان محمد أطيب وأزكى ما لو أُكل كبيراً.
ﮋ ﯥ ﮊ بمعنى محنوذ، وهو المشوي، واللحم أجوده ما كان مشوياً، وأجود الأجواد أن يكون مشوياً بحرّ الحجارة، لا بالنار والجمر مباشرة، يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذاً أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محّماة لتنضجها، فهي حينذ .
ثم قيامة لخدمة الضيفان بنفسه في قوله { فما لبث أن ...} لأن الضمير في { لبث } يعود عليه 5، وفي { جاء } أيضاً يعود الضمير عليه.
وقيل: إنما جاء بعجل، لأن البقر كان أكثر أمواله، وهو قرب ينسجم مع مسار الحديث.
قال ابن عباس:
إن هؤلاء النفر من الملائكة هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام[115]
وليس لنا أن نسلم بذلك التأويل إلا بعلم نقف علي في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو الأمر الذي لا نجده في أيٍّ من المصدرين، مما يجيز لنا ردَّ ذلك التأويل، وتبريرنا لذلك كما يلي:
إن جبريل 5 هو الأمين على وحي الله تعالى، فهو الذي ينزل من السماء بكلمات الله تعالى ليلقيها إلى من يختاره الله رسولاً. وفي بعض أحوال نزوله 5 كان ينزل في صورة آدمية، مثلما كان مع رسول الله4 الذي كان يستقبله أحياناً في صورة رجل بعينه اسمه { دحية الكلبي }
فإذا كان هذا يحدث مع خاتم الأنبياء، أفلا يليق بإبراهيم 5 أن يأتيه جبريل 5 أحياناً في صورة آدمية ؟
لا أعتقد أن الإجابة بـ{ لا } لها محل في هذا الموضع .
فإذا كان جبريل 5يظهر له في صورة آدمية ثابتة، لتكون دليلاً عليه، فإنه إذا كان في ذلك الفريق من الملائكة، فسيعلم إبراهيم 5 أن مرافقته ملائكة مثله، وبالتالي فلن يقدم لهم الطعام، لأنه يعلم أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون . فكان في تقديمه الطعام إليهم مؤشر على أنه لا يعرف أنهم ملائكة، وعلى أنهم ليسوا جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، إذ لو كان جبريل واحداً منهم لعرفهم، للحيثيات التي ذكرناها سابقاً.
ثم إن السماء ليست خلّواً من الملائكة حتى يُلّجأ إلى هؤلاء الملائكة العِظَام لأداء تلك المهمة، فقد جعل الله تعالى الملائكة أصنافاً، كل صنف قد أوكل إليه جل شأنه عملاً يقوم به.
فجبريل 5 هو الروح الأمين الذي ينزل على الأنبياء بالوحي من السماء، ورضوان هو خازن الجنة، وإسرافيل هو صاحب البوق { الصور } ... إلخ، وليس من اللائق أن اعتقد الخلط في المهمات بين ملائكة الرحمن.
ﮋ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﮊ
ﮋ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ
أي لاتصل إلى العجل المشوي الذي وضع أمامهم.
ﮋ ﯭ ﮊ أي رأى منهم ما ينكر كونهم جاءوا للضيافة والقرى .
ﮋ ﯮ ﯯ ﯰﮊ
أي: أضمر، وفي ذلك إشارة إلى أن العادة التي يحياها العرب في البادية الآن هي من ميراث أبينا إبراهيم 5، فإذا أنول بهم ضيف، ولم يمدّ يده إلى زادهم أو حبسوا منه خفيفة، لن الذي لا يأكل زادك، قد يكون مضمراً لك شراً، وأما إذا أكل منه، فإنه لن يخون ذلك الزاد، ولو كان صاحب شر
ﮋ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ
فكيف عرفوا أنه خائف، مع أن ذلك الخوف كان مُضْمَراً في نفسه، ولم يُبْده لهم ؟
إنهم ملائكة الرحمن، والعلم الذي يطّلعون عليه أوسع من حدود العلم البشري، لأنهم يملكون من نور الله تعالى ما يجعلهم قادرين على قراءة ما وراء الوجوه، وما في قرارة النفوس، بل إن هذه الصفة لاتقف عندهم هم فقط ، بل وتتعداهم إلى عباد الله المؤمنين، الدين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل }
ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﮊ
أفصحوا له عن المهمة التي هم على الأرض من أجلها، وهي إهلاك قوم لوط.
ﮋ ﯻ ﯼ ﯽ ﮊ
أي أنها كانت تشهد ماكان من الضيوف أمام إبراهيم، فاعتراها مااعترا إبراهيم 5 عندما ما رأت أيديهم لا تصل إلى العجل، وعندما سمعت كلامهم ضحكت لهذه المفارقة العجيبة، فهؤلاء الذين ظن إبراهيم وظنت معه زوجه أنهم يبّيتون لهم شراً، ماهم إلا ملائكة الرحمن، الذي اتخذ إبراهيم خليلاً.
ﮋ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﮊ هود: ٧١
نسبة البشرى إلى { سارة } يشير إلى أن لها قدراً ومقاماً كبيراً عند رب العالمين جعلها مؤهلة لتلقي البشرى من الله تعالى على لسان ملائكة الكرام.
وليست البشرى فقط في هبة الولد، بل ترافقت معها بشرى أخرى، وهي أن هذا الولد سيكون نبياً، ومبالغة في إكرام رب العالمين لإبراهيم5 ولزوجه جعل لهذه البشرى امتداد من جنسها، وهو أن يكون لهما حفيد من إسحاق، يجعله الله نبياً، وهو يعقوب 5.
وفي موضع آخر قالت الملائكة، موجهة البشرى إلى إبراهيم 5:
ﮋ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﮊ الأنبياء: ٧٢
ولا تعارض بين الموضعين، لأن إبراهيم 5 وزوجه { سارة } كّلاً منهما كان معيناً بالبشرى، فجاز أن تكون مرَّة مقرونة بخليل الرحمن، وأخرى بسارة.
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﮊ
لم يُّرد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة درجت على أَلْلسنة النساء إذا رأين عجباً [116] كان العجب الذي سمعته أن يكون لها ولد، وهي عجوز طاعنة في السن.
ﮋ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﮊ
استفهام لا يُطلب له جواب، خرج عن معناه الأصلي، ليفيد معنى التعجب، من أن تلد، وهي عجوز، لاُ يرجى منها الولد وفي موضع آخر ذكر الله تعالى قولها هذا مقروناً بصفة أخرى، وهو قولها { عجوز عقيم }، ففوق كونها عجوزاً، قد تخطت السنوات التي تلد فيها النساء، كانت عقيماً، أي لا تلد.
ويزداد العجب لديها وهي ترى زوجها 5شيخاً، قد بلغ من الكبر جدّاً لا يجعله مؤهلاً للإيمان.
ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﮊ
{هذا } المشار إليه هو أن يكون لها ولزوجها 5ولدٌ، وقد فقد كلٌّ منهما القدرة على الإنجاب. المرأة عجوز عقيم، والزوج شيخ قد بلغ من الكبر عتياً.
فردت عليها الملائكة:
ﮋ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﮊ
أُسند فعل التعجب إلى سارة وحدها، لأن إبراهيم 5 كان يملك من الإيمان والعلم ما يجعله من أمر يسند إلى قدرة الله تعالى.
والاستفهام هنا استفهام إنكاري، أي أنهم كانوا ينكرون منها تعجبها من أمر الله تعالى، فمن شأن الأمور الاعتيادية في القانون البشري أن لاتدعوا إلى التعجب، ولكنها إذا حدثت بعيداً عن نطاق الممكن في حياة الإنسان فإن ذلك أدعى إلى التعجب، وهذا بالضبط ما كان من شأن سارة رضي الله عنها. ولو أنها نظرت كما نظر إبراهيم 5 والملائكة المرسلون لما تعجبت، لأن الأمور الخارقة للقوانين المادية، ما هي إلا أمور اعتيادية في نطاق القدرة الإلهية .
ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﮊ
وكأن التعجب الذي يكون مقروناً بشيء من الاستنكار لا يليق بالإنسان أن يبديه أمام أمر الله، فما بالك إذا كان هذا الإنسان { سارة } التي كانت زوجاً لخليل الرحمن ؟
فإذا كان التعجب من إنسان عادي لكان الأنسب له، طلب الاستغفار، ولكن الملائكة عدلت عن الاستغفار إلى ماهو واجب في حق أهل البيت من ذكر الرحمة والبركة، ولذلك فإن هذه الكلمات ليست دعاء، عذلوا كانت كذلك لكان فيه مؤشرا على أن رحمة الله وبركاته لم تكونا حاصلتين لأهل البيت، فجاءت الملائكة، وألقت ذلك عليهم والثابت في أركان العقيدة أن أهل البيت ينالون الرحمة والبركة بمجرد دخولهم في هذه الصفة.
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮ ﮊ
أي أن رحمة الله وبركاته عليكم يا أهل البيت تحقّقت بسبب أنه حميد مجيد وأن إسباغ الرحمة والبركات عليكم تستدعي منكم أن تحمدوا الله تعالى وأن تُمّجدوه.
فالحمد الله تعالى، لأنه هو صاحب هذه النعمة.
والمجد له وحده، لأن الكرامة التي نلتموها ما كانت إلا بفعل الله وإرادته، ولأنَّ المجد لا يتحقق إلا من خلال الأفعال العظيمة، وهذا هو فعل رب العالمين، لا يفعل فعله أحد، فجاء الاسم { حميد مجيد } رافعاً دلالة الحمد المؤطر المجد.
ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﮊ
الروع: الخوف.
أي: فلما انصرف عن إبراهيم الخوف الذي داخله عندما رأى أضيافه لا يمدون أيديهم إلى طعامه، وبعد أن تلقى البشارة بأن الله تعالى سيرزقه إسحاق نبياً، ومن وراء إسحاق يعقوب، عاد إليه اطمئنانه، فأخذ في خطاب الملائكة من كامل صفاته الخُلُقية، التي أهّلته لأن يكون خليلاً للرحمن:
ﮋ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ
أي يجادل رسلنا، وأضاف جل شأنه النعل غلى نفسه، لأن نزول الملائكة كان بأمره سبحانه[117]
والجدال لا يكون إلا من قِبَل طرفين فأكثر، أحدهما يريد إثبات أمرٍ ما، والآخر يريد نفيه، وفي الآية كان الملائكة مكلفين بإهلاك قوم لوط، فكان جدال إبراهيم 5 معهم يهدف إلى صرف العذاب عن هؤلاء القوم، ثمّ ذكر، جل شأنه، السبب الذي جعل إبراهيم 5 مصرّاً على محاولة صرف العذاب عن قوم لوط.
ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮊ
{ الحليم }
الحلم هو كبح جماح النفس عند الغضب، فكان حلم أبينا إبراهيم ماثلاً في حبس لسانه ويده عن إظهار غضبه على القوم لعصاه، بل إننا نجده، 5، يتجاوز هذه الصفة إلى أبعد من ذلك، فيطلب المغفرة والرحمة لهؤلاء العصاة.
وهذا لا يعني أن { خليل الرحمن } لا يغضب لربه، بل يغضب ويغضب ولكنه لا يقول مثل ما قال نوح 5.
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﮊ نوح: ٢٦
بل كان يقول:
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ إبراهيم: ٣٦
فقد كان يعلم من رحمة الله تعالى مايسبغ له طلب المغفرة والرحمة لكل الناس.
ولم يكفّ عن محاولاته إلا بعد أن جاءه الخبر من الملائكة { يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك ...} فكفّ عن جدالهم، لأنه يعلم أن أمر الله إذا جاء فلا رادَّ له.
{ أوّاه }
اخُتلف في تأويل هذه الكلمة على خمسة عشر قولاً، فكان في ذلك ما يستدعي سردها، ومن ثَمّ مناقشتها، وهو الأمر الذي قد لا يتناسب مع مسار تأويل هذه الآيات. فمكانه المناسب الفصل المخصّص لصفاته 5 ، والذي سيأتي لاحقاً.
{ منيب }
من الفعل: أناب، بمعنى رجع، فكان إبراهيم 5 راجعاً في أموره كلها إلى رب العالمين، أي أنه جعل الله تعالى وكيلاً له في كل شؤونه وبهذه الحالة يكون قد تسنَّم أعلى درجات الإيمان ونقصانه.
فكان من آثار هذه الإنابة العالية في نفسه إقباله على محاولة صرف العذاب عن قوم لوط.
ﮋ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮊ
أي دع الجدال الذي أنت فيه، أودع أمر العذاب النازل بقوم لوط، ولا تتدخل فيه. وسبب الدعوة إلى الإعراض :
ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮊ
عبّر عن مجيء أمر الله تعالى بالفعل { جاء }، وهو فعل ماضٍ يفيد أن الفعل قد وقع وانتهى، فكيف يكون ذلك والسياق يدل على أن الفعل لم يقع بعد ؟
جرتْ القاعدة في كتاب الله تعالى، أن يُعَّبر عن وقوع الحدث بالفعل الماضي حال إسناده إلى القدرة الإلهية، فإذا أردت أن تفعل فعلاً في المستقبل، وعبّرت عنه بالفعل الماضي، فإنما أردت أنّ الفعل واقع لا محالة، ولكن ذلك قد لا يستقيم لأن الأحداث قد تجبرك على غير ذلك، أمَّا مع الله تعالى فإن أمره الذي هو في ذات الوقت فعله، ليس لشيء أن يقف أمامه ليمنعه من الوقوع.
ﮋ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ
{ آتي } اسم فاعل من الفعل { أتى } وعبر بالاسم دون الفعل، لما في الاسم من دلالة الثبات، فكان في ذلك إشارة إلى أن العذاب واقع بهم لامحالة.
ﮋ ﮐ ﮑ ﮊ
وصف العذاب بصفة لا يتأتى في ظلها أي نقاش أو جدال، فهو عذاب غير مردود، لن يردّه استغفار أو شفاعة، وفي ذلك إشارة إلى شدة غضب الله تعالى على هؤلاء القوم، لما كانوا يفعلونه من فاحشة، بل إن العذاب الذي وقع بهم كان عذاباً فريداً، جعله جل شأنه رَصَدَاً لكلّ من ينتهج نهجهم من الأمم اللاحقة:
قال تعالى .
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﮊ هود: ٨٢ – ٨٣
فقال ﮋ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﮊ إعلاناً وإعلاماً للعباد بأن تلك الحجارة التي أمْطرت على قوم لوط 5 قريبة من الظالمين الذين يفعلون فعلهم.
وقال صلى الله عليه وسلم :
{ سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال ونساؤهم بالنساء، فإذا كان ذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل } [118]
ثانياًُ: الموضع الثاني، الحجر
ﮋ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﮊ الحجر: ٥١
النبأ هو الإخبار بالغيب، أمر الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه والمؤمنين من أمّته عن ضيوف إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكلمة { ضيف } تصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث[119]
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﮊ
ألقوا 5.
وفي سورة هود ذُكر ردّ السلام من قَبِل إبراهيم 5، أما في هذا الموضع فقد طواه الله تعالى، كما طوى ذِكْر الخوف في نفس إبراهيم 5. وذُكر في هذا الموضع مالم يُذْكر في الموضع السابق، وهو تصريح إبراهيم 5 بالوجل منهم:
ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﮊ
إنما قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل، ورآهم لا يأكلون [120]
ﮋ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ
نَهَوْهُ عن الوجل، لأنهم لا يحملون له شراً، بل كانوا يحملون له خيراً، عبّروا عنه بالفعل { نبشرك }، لأن البشرى لا تأتي إلا بخير

وكانت بشراهم له { غلام عليم } يهبه جل شأنه له ولزوجه سارة.
ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ
{ أن } مصدرية، أي : على مسّ الكبر إياي وزوجتي.
أي: أجئتم بهذه البشارة بعد أن بلغت من الكبر عتياً، فهلا كانت البشارة قبل أن أصل إلى هذه السن التي لا يصلح فيها الرجل للإنجاب.
ﮋ ﭩ ﭪ ﮊ
لا موضع لبشارتكم هذه في ظل الحالة التي وصلت إليها أنا وزوجي
فردت عليه الملائكة:
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮ ﮊ
الحق هو ما جاء موافقاً لحقيقة الأشياء وقوانينها.
فكان إبراهيم 5 ينظر إلى البشرى من خلال منظور بيولوجي، تحكمه طبائع الأشياء، أما الملائكة، فقد ألقوا إليه البشرى من منطلق علمهم بالقدرة الإلهية التي تفعل ما تشاء.
وعلى ما يبدو فإن هذه الظاهرة التي جرت مع إبراهيم 5 وزجه { سارة } ظاهرة ثابتة في بني البشر، لا يستطيعون التخلص منها لأول وهلة، وإن كانوا أنبياء مرسلين:
فها هو زكريا 5 يسأل الله تعالى ولياً، يرثه ويرث من آل يعقوب، بدون أن يسأل كون ذلك الوريث ولداً له فغاية ما كان يطلبه من ربه أن يُصْلح له رجلاً، يكون مؤهلاً لحمل ذلك الميراث، فبشره الله يولد اسمه { يحي } 5فردّ على هذه البشارة بقوله:
ﮋ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ مريم: ٨
فكان استفهامه التعجبي نابعاً من خلال الحيثيات المادية التي ذكرها { امرأتي عاقراً } و { بلغت من الكبر عتياً }، لا من خلال النظر إلى القدرة الإلهية .
ومريم الصّدّيقة، بعد أن جاءها جبريل 5في صورة آدمية، وبشرها بغلام يأيتها بدون أن يَمْسَهْا بشر، فقالت:
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ مريم: ٢٠
فاستفهمت تعجباً من أن يكون لها غلام بعيداً عن القوانين الطبيعية المعروفة للإنجاب.
ﮋ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﮊ الحجر: ٥٥
نهاه الملائكة عن أن يكون من القانطين، لأن المؤشرات التي ظهرت منه 5 تدل على أنه قانط، ولكنه 5لم يكن قانطاً، بدليل قوله لاحقاً { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } فما معنى ذلك ؟
فهم لدى إبراهيم 5، ويتخلص في أنه لا يقنط من رحمة الله أبداً، لأن القنوط صفة من صفات الضالين، وهو 5لم يكون ضالاً بل كان خليلاً للرحمن. فلم يكن رده على الملائكة قنوطاً من رحمة الله، بل كان قنوطاً من حاله وحال زوجه { سارة } حيث وصلا إلى سنٍّ لا أمل معها في الإنجاب .
فهم الملائكة 5، الذين رأوا في قنوط إبراهيم 5 من حالته قنوطاً من رحمة الله تعالى، لأن الإنسان إذا نظر إلى الواقع، المادي الذي يعيشه، يجب أن لا يكون نظره مستقلاً ومنفصلاً عن القدرة الإلهية، وأن لايحكم على الأشياء من خلال قوانينها المعلومة، بل إلى استحضار الثورة الإلهية التي تفعل ما تشاء، رغم أنف تلك القوانين.
ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ الحجر: ٥٦
استفهام خرج عن معناه الأصلي إلى معنى الإنكار، أي لا أحد يقنط من رحمة الله سوى القوم الضالين. فكان في كلامه هذا إقرار منه بأن القنوط الذي ظهر على لسانه، ليس قنوطاً من رحمة الله تعالى، بل من الحالة الجسدية التي وصل إليها هو وزوجه سارة .
وبعد أن انتهت قضية البشرى بالولد إلى ما هو واجب لها لدى الملائكة ولدى إبراهيم 5، التفت خليل الرحمن إلى سياق آخر.
ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ الحجر: ٥٧
الخطب: هو الأمر الخطير.
يدرك إبراهيم 5 إن الملائكة لاتتنزل إلا بأمر من الله تعالى، ومادام الأمر كذلك، فلا بد أنه من وراء نزولهم أمر خطير، فقالوا:
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ الحجر: ٥٨ – ٦٠
ثالثاً: الموضع الثالث، العنكبوت
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﮊ العنكبوت: ٣١
صياغة أخرى لموقف إبراهيم 5مع ضيفه المكرمين، وهي كما ترون صياغة مختصرة بالنظر إلى الصياغات الأخرى وسبب ذلك هو أن السياق الذي وردت فيه هذه الصياغة هو حكاية قصة قوم لوط 5، فكان الاختصار أكثر مناسبة للمقام.
ومع ذلك، فقد ورد في هذا المختصر أمر لم يُذكر في الصياغات الأخرى، وهو قول إبراهيم5 للملائكة { إن فيها لوطاً }، قد ذكر هذا الأمر بالتحديد في هذا الموضع لمناسبته للسياق الذي أشرنا إليه قبل قليل.
وقوله 5 { إن فيها لوطاً } كان جزءاً من أجزاء المجادلة التي كانت بينه وبين الملائكة، لعله بذكر هذه لحقيقة يتمكن من ضرب العذاب عن القوم فردت عليه الملائكة.
ﮋ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﮊ العنكبوت: ٣٢
و { أَعْلَمُ } أفعل تفضيل، ولذلك منهم يقولون له، 5، نحن أعلم منك بمن فيها. ثمّ أرادوا نقض حجته في جلالهم، فقالوا في شأن لوط 5 { لننجينه } وأكدوا ذلك باللام ونون التوكيد الثقيلة إشارة إلى نجاة لوط يقين لا شبهة فيه، فكان في ذلك مدعاة لاطمئنان إبراهيم 5 على ابن أخيه، الذي كان نبيأً من أنبياء الله تعالى
ثم ذكروا من العلم الذي يعلمونه هم، ولا يعلمه إبراهيم 5، قولهم، { ... ,أهله إلا امرأته كانت من الغابرين }
فقد أردت يا إبراهيم النجاة لابن أخيك، ظناً منك بأنه كان المؤمن الوحيد، فاعلم، إذاً، أن أهله كانوا مؤمنين، وسننجيهم من ذلك العذاب واعلم أيضاًَ أن امرأته ليست من المؤمنين، وسيصيبها ما سيصيب القوم .
رابعاً: الموضع الرابع ، الذاريات :
ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ الذاريات: ٢٤
استفهام قد يكون على حقيقته، وقد يكون خارجاًَ عن هذه الحقيقة والذي يحدد ذلك هو طبيعة العلم لدى من وُجِّه إليه هذا السؤال، فإذا كان عالماً بهذا الحديث، فليس الاستفهام على حقيقته، إنما هو استفهام تقريري، بمعنى: { قد أتاك }، وإن لم يكن عالماً به فهو استفهام حقيقي.
ﮋ ﯞ ﮊ الكرامة صفة لازمة لملائكة الرحمن، وسبب كرامتهم اتصالهم بالله تعالى، فليس بعد درجتهم في الصلة بالله درجت إلا ماشاء الله.
وليست هذه الصفة مقصورة على جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، بل هي الملائكة أجمعين، ويشهد على ذلك قوله تعالى:
ﮋ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ الأنبياء: ٢٦
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ عبس: ١٣ - ١٦
في الموضع الأول، نزّه الله تعالى ملائكة عن الذكورة والأنوثة، وذكر الصفة اللازمة لهم { عباد مكرمون } .
وفي الموضع الثاني ذكر الملائكة الذي يحملون الصحف بأنهم { كرام }
ﮋ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﮊ الذاريات: ٢٥
ﮋ ﯩ ﮊ قيل في تأويل ذلك:
غرباء لا نعرفكم .
أو لأنه رآهم على غير صورة البشر.
أو لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان[121]
وكل ذلك مردود، ويرّده المنطق العقلي والنبوي والعرفي، ولا أرى داعياً لمناقشة ذلك كله، واكتفى بالقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{ اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى } رواه البخاري والترمذي
فإذا كان المؤمن ينظر بنور الله تعالى، فيدرك ما خلف الوجوه، فما بالك إذا كان ذلك المؤمن نبياً صديقاً، اتخذه الله خليلاً ؟
لقد كانت فراسة إبراهيم 5، هي التي قادته إلى أن يرى ما خلف تلك الوجوه، فرأى فيها أمراً غريباً، ولكنه لم يستطع أن يجزم به، فأنكر ما رآه في وجوهم
وقد يكون في ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيراً لذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب:
{ كنا جلوساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب شديد سواد شعر الرأس لا يُرى عليه سفر...} ابن ماجه.
وكان ذلك الرجل هو جبريل 5، فأنكره القوم للأسباب التي ذكرها عمر بن الخطاب في وصفه له. ونفس الأمر كان مع إبراهيم5 نظر إلى القوم، فرآهم غرباء عن مكان إقامته، وهذا يستدعي أن يكونوا مقبلين من مكان بعيد، وهذا يستدعي أن تظهر عليهم آثار السفر، وهو الأمر الذي لم يلحظه فيهم فأنكرهم.
ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﮊ
أراغ إلى كذا : أي مال إليه سراً وحاد.
ﮋ ﯮ ﯯ ﯰ ﮊ
كنا قد ذكرنا في آيات سورة { هود } شواهد على مبالغة إبراهيم 5 في إكرام ضيفه، وذلك من خلال قوله { فجاء بعجل حنيذ }، وفي هذه الآية نجد إضافة أخرى، شاهداً على ذلك الكرم، وذلك في قوله { سمين }، فلم يأت بعجل ضامرٍ هزيل، بل أتاهم به سميناً، ليكون أطيب مطعماً، وأوفر لحماً.
{ فقّر إليهم فقال ألا تأكلون }
في طيات هاتين الجملتين جُمل أخرى يقتضيها الموقف ذاته، وقد ذُكَرِت في مواضع سابقة. فهو 5 قرب العجل المشوي إليهم ليأكلوا منه { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم } { فقال ألا تأكلون . وأوجس منهم خيفة }
ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﮊ طه: ٦٧
أضمر في نفسه الخوف منهم، فلم يظهره لهم.
{ قالوا لا تخف }
ينتهي الخوف عندما ينتهي سببه، فكان في قولهم له { لا تخف } إشارة إلى أنهم ليسوا في الصورة التي استدعت خوفه 5، وهي أنهم بشر يريدون به شراً.
وفي سورة { هود } جاء تعليلهم لهذا النهي بقولهم:
ﮋ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﮊ هود: ٧٠
ﮋ ﰀ ﰁ ﰂ ﮊ
الغلام العليم: هو إسحاق 5
والبشارة هي الخبر الطيب، يُلقى إليك بما تحبه أو ترجوه، فكان هؤلاء الملائكة حاملين البشارة بالولد، وأما تحقيق هذه البشارة فمرهون بيد القدرة الإلهية التي إذا أرادت شيئاً فإنما تقول له كن فيكون.
ﮋ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﮊ
الصّرّة: هي الصيحة والضجة، ومنها أُحذ صرير الباب وهو صوته .
قيل أن امرأة إبراهيم 5 كانت قائمة خلف ستر لها تسمع ما يدور من حوار، فسمعت وشهدت من الضيوف ما شهده إبراهيم 5، وخافت مثل خوف إبراهيم5، ولكنها إذ علمت أنهم ملائكة اطمأنت، وعندما سمعتهم يلقون البشارة بالولد لم تملك نفسها مثلما فعل إبراهيم5، فخرجت من خلف الستر وأقبلت على الملائكة إقبالاً وصفة جل شأنه بقوله { في صرَّة } في ضجة وفي صيحة.
ﮋ ﰈ ﰉ ﮊ
أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب[122]
والتضعيف الموجود على الكاف إشارة إلى أنها ضربت وجهها بشدة، تعبيراً عن شدة تعجبها.
ﮋ ﰊ ﰋ ﰌ ﮊ
أي : أنا عجوز عقيم، وكأنها بذلك تتعجب من أن تلد وهي تحمل هاتين الصفتين.
قيل: إنها ولدت وهي بنت تسع وتسعين، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة[123]
ﮋ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﮊ
الكاف للتشبيه، و{ ذلك } اسم إشارة لما ذكرته الملائكة من أمر البشارة، وكأن كلام الله تعالى له صفة غير تلك الصفة التي ظهرت على لسان الملائكة في هيئة كلمات . أي كذلك الذي ألقيناه إليك قال ربك .
ﮋ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﮊ
تعليل لإرادة الله تعالى أن يكون لإبراهيم 5 وزوجه { سارة } ولد، في تلك السن، التي لا يكون للزوجين فيها القدرة على الإنجاب
فإرادة الله تعالى تجري في خلقه من خلال اسمه { الحكيم }، وهذه الحكمة جاءت قائمة على علم دقيق بأحوال الخلق، أشار إليه اسمه جل شأنه { العليم }.
اللهم صل على إبراهيم
عن أبي مسعود الأنصاري، قال:
أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد ابن عبادة، فقال له بشير بن سعد، أمرنا الله أن نصلي عليك يارسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
{ قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم } رواه مالك والنسائي.
لقد كان في الحديث المذكور ترجمة لقوله تعالى:
ﮋ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮊ الأحزاب: ٥٦
ولكننا نلاحظ أن الترجمة لم تأتِ مقصورة على ذكره صلى الله عليه وسلم ، فقد ذُكِر فيها إبراهيم 5، ومن شأن ذلك أن يقودنا إلى مايلي:
إن أقصى قدر يُرْجى لمحمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة هو ذلك القدر الذي كان لإبراهيم 5،
كرامة إبراهيم 5 عند ربه كرامة عظيمة وجليلة ، ظهر أثرها في أن يبقى ذِكْره مقروناً بذِكر خاتم الأنبياء إلى يوم القيامة
الإشارة إلى أن العلاقة بين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام تجعل منهما ذاتاً واحدة في جنب كرم الله تعالى.
وقد سبق أن أشرنا في ثنايا هذا الكتاب إلى العديد من القواسم المشتركة بين أبينا إبراهيم5، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم . ولكن تفرقها في أماكن مختلفة، قد لا يجعل أثرها بالغاً في إثبات العلاقة أولاً، وفي جلاء هذه الصورة المقدسة ثانياً. وفيما يلي أسرد عليكم هذه القواسم المشتركة:
عندما قال إبراهيم 5 { إني مهاجر إلى ربي }، ترك قومه بقدرة الله تعالى وبأمر منه، فنجاه مما يريده القوم به.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمره الله تعالى بالهجرة ، فترك مكة، والقوم يريدون الفتك به. قال تعالى:
ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ الأنفال: ٣٠
فأيده الله تعالى بقدرته، فخرج أمام أعين القوم الذين يريدون قتله. فحجب الله أعينهم عن رؤيته، فلم يرده وهو خارج من بيته، قاصداً يثرب...
كان في رفقة إبراهيم5 في هجرته اثنان: زوجه سارة، وابن أخيه لوط. وكانا مؤمنين.
وكذلك الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في رفقته اثنان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعامر بن مهيرة مولى أبي بكر، اللذين كانا ليدلهما على الطريق مقابل قدر من المال، يأخذه مقابل ذلك
كان هجرة إبراهيم 5انتصار لدعوة الله تعالى، وتوطيداً نصراً لأركان الدين في الأرض، وكذلك كانت هجرته رسول الله صلى الله عليه وسلم نصراًُ للإسلام، وتوطيداً لأركان الدين الحق في الأرض.
تزوج إبراهيم 5 هاجر القبطية، فأنجب منها محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يكن إنجاباً مباشراً، فقد أنجب إسماعيل 5ومن إسماعيل 5 كان محمد صلى الله عليه وسلم . ففعل محمد صلى الله عليه وسلم فعل أبيه إبراهيم، فتزوج جارية قبطية بعد أن أعتقها، وهي مارية القبطية، فرزقه الله تعالى ولداً، أسماه إبراهيم على اسم أبيه.
لقد كان لرسول صلى الله عليه وسلم أولاد وبنات من خديجة رضي الله عنها، فلم نجده يسمى أحداً منهم باسم إبراهيم، ولم يلجأ إلى هذا الاسم إلا عندما تزوج مارية القبطية. فالتزم ماالتزمه أبوه إبراهيم، لتحقيق المماثلة التي قدّرها جل شأنه بيه وبين إبراهيم 5.
لم يقدّر الله تعالى لرسوله الأعظم أن يكون له ولد من أزواجه اللائي تزوجهن بعد خديجة، وما ذلك إلا لحكمة أرادها رب العالمين. فما الذي جعل الله تعالى يغير هذا المسار جزئياً، فيقدر له الولد فقط من سارية القبطية، إذا لم يكن عَقْداً للمماثلة العجيبة بنية صلى الله عليه وسلم وبين أبيه إبراهيم 5.
والقارئ للسيرة النبوية المطهرة يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبك على أحد من أولاده مثل ما بكى على إبراهيم ولده، ومن شأن البحث في ذلك أن يقودنا إلى ما يلي:
إن الإنسان لا يستسلم للبكاء، حزناً على مفقود له، إلا إذا كان ذلك المفقود يحتل مساحة كبيرة في القلب والوجدان، فكان في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم دون بنية أولاده، دليلاً على أنه كان يحتل مكانه كبرى في قلبه، فهل هناك من تبرير لذلك ؟
إن الدارس لأحوال النفس البشرية يلاحظ أن الرجل إذا كان له أولاد، يحملون أسماء ليست من اسم أبيه، خصوصاً إذا كان ذلك الرجل يحمل محبة كبيرة لأبيه المتوفى. فهو في هذه الحالة لن ينظر إلى هذا الولد من منظور أنه ابنه فقط ، بل سينظر إليه أيضاً، وكأنه ينظر إلى أبيه الحبيب إلى قلبه، ومن شأن ذلك إن يجعل محبته في القلب أكبر من محبة بنية إخوته.
وهذا ما كان مع محمد صلى الله عليه وسلم ، بكى عند وفاة ولده إبراهيم، ولم يبك على من سبقه، لأن ولده هذا كان يحمل اسم أبيه، أبي الأنبياء ، الذي كان أحب إليه من أبيه عبد الله ومن جده عبد المطلب ومن عمه أبي طالب.
اختص الله تعالى إبراهيم 5 بأن جعله خليلاً له:
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ النساء: ١٢٥
ولم يشاركه في هذه المنحة احد من الأنبياء سوى ولده محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي قال في معرض الحديث عن نفسه:
{ وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً } مسلم
وأكد ذلك عليه الصلاة والسلام في موقف آخر، فقال:
{ لو كنت متخذاً خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً } رواه مسلم وابن ماجه
ولكنه لا يجوز له أن يتخذ خليلاً مع الله تعالى، لأن في ذلك شرك له سبحانه
فكان من قدر الله تعالى أن يكون إبراهيم 5 ومحمد صلى الله عليه وسلم ، كلٌّ منهما خليلاً لله تعالى، ولم يشاركهما في هذا الفضل أحد من العالمين.
صفات إبراهيم 5 الجسدية، كانت نفس صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء في الحديث:
{ ... أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم } يعني نفسه رواه مسلم وأحمد
فاكتفى من بيان صفة إبراهيم 5 الجسدية بأن أحالهم إلى النظر إلى شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك إشارة إلى أنهما يحملان صورة جسدية واحدة، كرامة لإبراهيم5 الذي جعله الله تعالى شبيهاً لإبراهيم الخليل.
عندما أمر الله تعالى نبيه وخليله إبراهيم 5 ببناء البيت، امتثل لأمر الله تعالى هو وولده إسماعيل، وعندما أراد وضع الحجر الأسود وضعه بيده الشريفة.
وهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد هُدم البيت قبل بعثته، وبنته قريش من جديد، ولكنهم عندما أرادوا وضع الحجر الأسود في مكانه اختلفوا، إذ كان كل فريق يريد هذا الفضل لنفسه، وأوشك الاختلاف أن يصل بهم حدّ الاقتتال . ولكن الإرادة الإلهية كانت حاضرة، فجعلت أحدهم يقول: فلتجعلوا أول داخل عليكم حكماً بينكم . فرضوا بذلك. وكان أول داخل عليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لم يكن يعلم من تبرير الله في ذلك شيئاً، ولم يكن يعلم أن خروجه من بيته قاصداً الكعبة، كان تبرير من الله تعالى، ليكون أول داخل على القوم، الذين ما إن رأوه حتى قالوا: رضينا بالأمين حكماً.
فوضع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم وضع عليه الحجر الأسود، وطلب من كل فريق أن يمسك بطرف من أطراف الرداء، فرفعوه بهذه الهيئة، فتناوله رسول الله منهم بيده الشريفة، ووضعه في مكانه، مثلما فعل أبوه إبراهيم 5 من قبل.
وفي ذلك إشارة عظيمة إلى ما للحجر الأسود من شان ، إذ جعل الله تعالى وضعه في مكانه من البيت بيد خليله من الخلق جميعاً إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم .
إبراهيم 5
وأهل الكتاب
أولاً: قال تعالى:
ﮋ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﮊ آل عمران: ٦٥ – ٦٨
ﮋ ﮋ ﮌ ﮊ
هم اليهود والنصارى
ﮋ ﮎ ﮊ
حاجَّ: على وزن { فاعل }، وهي صيغة تفيد المشاركة، يريد اليهود أن يجعلوا إبراهيم 5 لهم، لا لغيرهم، وكذلك النصارى، كلٌّ منهما يحاول أن يطلق من القول ما يجد فيه حجة يدعم بها دعواه.
ولكن الحجة ليس لها ما يدعهما سوى الأساس العقلي السليم، فذكر جل شأنه ما يلغي كل ادعاءاتهم، وهو قوله:
ﮋ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮊ
فاليهود هم الذين أُنزلت عليهم التوراة، والنصارى كان كتابهم الإنجيل، وهاتان الرسالتان لم ينزلهما رب العالمين إلى الأرض إلا من بعد إبراهيم
ﮋ ﮙ ﮚ ﮊ
استفهام، الغرض منه توبيخهم على لجوؤهم إلى معتقد ليس له من المنطق والبرهان أو في مقدار.
ﮋ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮊ
ﮋ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ
مما نطق به التوراة والإنجيل .
ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮊ
لم يُذكر في التوراة والإنجيل من دين إبراهيم 5 [124]
الجزء الأول من التأويل سليم ومنسجم مع الموقف، وأما الجزء الثاني فإنني أراه غير متوافق، لأن دين إبراهيم 5 لم يكن مستقلاً ومختلفاً عن كل الأديان، السابقة له واللاحقة، لأن جميع الأديان تستقي من مصدر واحد وهو اللوح المحفوظ، ولكنها تتفاوت فيما بينها زيادة ونقصاناً، وحلالاً وحراماً.
فقد أقر لهم جل شأنه المحاجة فيما يملكونه به علماً، وأنكر عليهم المحاجة فيما ليس لهم به علم. فمن أين هو العلم الذي كانوا يملكونه ؟
إنه مما أَلقى إليهم في التوراة، والإنجيل. وهذا لهم أن يجادلوا به، لأنه علم ألقاه الله تعالى إليهم، أمّا أن يجادلوا بما لا يجدون له مكاناًَ في كتبهم فهذا هو العلم الذي لا يملكونه، فأنكر عليهم جل شأنه الخوض فيه، وادعاء مالم يقرّه الله لهم .
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮊ
إذا قيس علم الإنسان إلى علم أخيه الإنسان، فلنا أن نقول أن فلاناً عالم، أو أنه أعلم ممن سواه. وأما إذا قيس إلى علم الله تعالى، فهو العالم ونحن لا نعلم شيئاً. وقد ذُكر في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقص على أمته خبر موسى 5 والعبد الصالح:
{ فجاء طائر فأخذ بمنقاره { من ماء } فقال: { العبد الصالح } والله ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من المجر...} رواه أحمد.
فما قيمة القطرة بالنسبة إلى البحر، إنها لا شيء.
ثم إن المخلوقات العالمة خلقت بدون علم، فعلمها الله تعالى، لذلك فإن العلم الذي تمله هو علم الله تعالى، وليس لها من علم سوى ما يلقيه الله إليها، وقد أقرَّت الملائكة بذلك، فقالت:
ﮋ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮊ
ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﮊ
في هذه الآية التي تليها يلقى جل شأنه العلم الفصل في شأن إبراهيم 5 من خلال مسارين:
ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ
فإذا لم يكن إبراهيم 5 يهودياً ولا نصرانياً، فماذا يكون ؟
ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ
أي كان مسلماً، مثلما نحن مسلمون، فملتنا هي ملته، ونحن وإياه على دين واحد، هو الإسلام، الذي كان مدوناً على عهده فيما يسمى بـ{ صحف إبراهيم } وعلى عهدنا باسم { القرآن الكريم } .
ﮋ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ
نفي جاء بعد إثبات، فكان الإثبات لكونه5حنيفاً مسلماً، والنفي لكونه من المشركين، الذين أشار إليهم جل شأنه بقوله { يهودياً ولا نصرانياً }
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﮊ
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﮊ
ذكر جل شأنه كلمة { الناس } تشتمل كل جنس البشرية، وكنا قد أشرنا فيما سبق إلى مسارات ملّة إبراهيم 5 ورأينا الإصرار فيها على كلمة الناس، وإن كان في ذلك من دلالة فهي أن الناس كلهم معينون به وكذلك هو 5 مغنيٌّ بهم جميعاً.
و{ أولى } صيغة أفعل التفضيل، دلت بصياغتها هذه على أن كل الناس لهم حق تولي إبراهيم 5 ولكن أكثرهم وأحقهم بولايته هو هم الذين ذكرهم جل شأنه في نص الآية:
{ الذين اتبعوه } وهم الذين آمنوا به على عهده.
محمد صلى الله عليه وسلم
المؤمنون الذين اتبعوا محمد 4 في زمانه ، وفي كل زمان.
فاليهود والنصارى وأمة الإسلام لهم دق الانتساب إلى إبراهيم 5، لأن صيغة { أولى } وإسنادها إلى الفرق الثلاثة المذكورة آنفاً، تدل على أنهم يملكون حق ولايته 5 ولكن أمة الإسلام { أولى } به منهم.
ﮋ ﯬ ﯭ ﯮ ﮊ
شملت كلمة { المؤمنين } إبراهيم 5 والذين اتبعوه ومحمد صلى الله عليه وسلم وأمة الإسلام.
ومن شأن النظر في كتاب الله تعالى، وفي النصوص التي يتداولها اليهود والنصارى أنْ تشير إلى ولاية أهال الكتاب جميعاً لإبراهيم 5
أولاً: في القرآن الكريم
كنا قد أشرنا إلى ما في كلمة { أولى الناس } من دلالة إلى ولاية أهل الكتاب. وفي موضع آخر نجد لوناً آخر من ألوان الدلالة إلى هذه الحقيقة. وذلك ي قوله تعالى:
ﮋ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ الروم: ١ – ٥
ﮋ ﯥ ﯦ ﯧ ﮊ الروم: ٤
فهل في انتصار الروم على الفرس مبرر لفرح المؤمنين ؟
قال ابن عباس: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، لأنهم وإياهم أهل أوثان. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، فذا كروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { أما إنهم سيغلبون } [125]
إن قوله جل شأنه { يفرح المؤمنين } ليس قولاً إخبارياً خالياً من التوجهات العقيدية . فلو كان الفرح لانتصار النصارى منهياً عنه، أو متعارضاً من أصول الاعتقاد، لما ذكره جل شأنه خلواً مما يشير إلى ذلك.
إذا، يحق للمسلمين أن يفرحوا لانتصار النصارى، ولكنه فرح بانتصارهم على الذين لا يدينون بدين سماوي.
وشراكة المسلمين للنصارى في فرحة الانتصار النصارى، ليست بعيدة عن أبينا إبراهيم 5، بل هي مرتكزة عليه، ومؤسسة عليه، وذلك من خلال محورين:
إن الأمم الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية تنتسب إليه، وكل واحدة تحاول أن تنسبه إليها، وتنفيه عمن سواها، قال تعالى:
ﮋ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮊ آل عمران: ٦٥
وقال أيضاً:
ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﮊآل عمران: ٦٧
ثانياً: في صُحُف اليهود والنصارى
ذكر الوعد الذي قطعه جل شأنه لإبراهيم 5 في عدة مواضع:
{ وظهر الرب لإبراهيم، وقال لنسلك أعطى هذه الأرض } سفر التكوين
{ وقال الرب لإبراهيم ارفع عينيك، وأنظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيتها ولنسلك إلى الأبد } التكوين
{ في ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاًَ قائلاً: لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مشر إلى النهر الكبير نهر الفرات } التكوين
والنصوص، كما ترون، صريحة في أن الإرادة الإلهية جعلت صلاحية الهيمنة على الأرض في ذرية إبراهيم 5، فمن هي ذريته المذكورة في تلك النصوص ؟
يقول الأستاذ ألفرد غوليوم[126]
والافتراض أو الاعتقاد السائد الآن { بين معظم اليهود على الأقل } أن هذه الوعود أُعطيت لليهود وحدهم. ولكن هذا الاعتقاد السائد بين اليهود ليس هو ما يقوله أو بعينه الكتاب المقدس، فكلمة { إلى نسلك وذريتك } تشمل بكل تأكيد العرب، المسلمين منهم والمسيحيين على السواء، لأنهم يستطيعون الادعاء بحق أنهم من ذرية إبراهيم5 عن طريق ابنه إسماعيل 5. فإسماعيل 5 يعتبر أبا لعدد كبير من القبائل العربية. وسفر التكوين نفسه من العهد القديم يسجل أن إبراهيم 5 أصبح أباً لكثير من القبائل العربية الشمالية عن طريق جاريته { هاجر المصرية }:
{ ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح : فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لايرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله ٍلإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جارتيك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها، لأنه بإسحاق يُدْعى لك نسل، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة، لأمة، لأنه نسلك } التكوين
الملاحظات
ذرية إبراهيم 5 التي جُعل لها الوعد بملك الأرض هي ذرية إسحاق وذرية إسماعيل عليهما السلام، فمن إسحاق كان اليهود والنصارى ومن إسماعيل كان المسلمون.
فليس لليهود من مستند يستندون عليه في ادعائهم بأن الوعد كان لهم وحدهم دون غيرهم.
ولإيمان المسلمين بهذه الحقيقة كان فرحهم لانتصار الروم المسيحيين على الفرس الوثنين . فكانوا بهذا الفرح يجسدون قدر الله تعالى الذي أرادة جل شأنه لذرية إبراهيم.
ولا تقف الشواهد عند هذه الحالة التي ذُكرت في القرآن العظيم، فمن شان القارئ للتاريخ أن يقف على محطات من شأنها تأكيد فكرة الوعد الإلهي لإبراهيم 5 ولذريته...ذلك:
قبل نهاية الدولة العباسية انطلق من قلب آسيا جنس ذو بأس شديد، لا يعرف شيئاً سوى القتل والتدمير، وكانوا يُعرفون باسم { المغول } فلم يقف أمام بأسهم وسطواتهم شيء. وصلوا إلى بغداد فدمروا كل ما وصلت إليه أيديهم، ثم واصلوا زحفهم إلى فلسطين، وكانوا مؤهلين لتحطيم كل ما يقف في طريقهم، ليصبحوا بذلك قوة عظمى، يرجع إليها أمر التصرف في الأرض والناس.
ولكن وعد الله تعالى لا شيء يقف أمامه، فلا سلطة نافذة في الأرض إلا سلطة ذرية إبراهيم 5، فوقف المماليك لكل خلافاتهم وأحقادهم وأصولهم المفقودة أمام التتار، رافعين راية الإسلام فكان الانتصار العظيم في معركة عين جالوت، واندثرت صلاحية المغول العسكرية في امتلاك الأرض بنصر الله الذي ينصر من يشاء.
وفي الحرب العالمية الأولى كان اليابانيون على وشك الانتصار على أمريكا، الذي إن تم، سيجعلهم القوة العظمى في الأرض ، صاحبته الأمر والتصرف في الأرض والشعوب.
ولكن اليابانيون وثنيون، وقد أعطى الله تعالى نبيه إبراهيم 5وعداً بأن يكون أمر الأرض في يده ويد ذريته، فكان لابد من تحقق الوعد أمام باس اليابانيين، وبسالتهم التي أوشكت أن تجعلهم أصحاب الأمر، فكان أن هدى الله بعض عقول النصارى الأمريكان إلى اختراع القنبلة الذرية سراً، وعندما رأوا أن الهزيمة أصبحت منهم قاب قوسين أو أدنى ألقوا القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجا زاكي، فكان انتصار أهل الكتاب.
وقد يلتبس الأمر على البعض، فيستغرب أن يكون لليهود والنصارى شيء من التأييد الإلهي، استناداً على الوعد القديم. ولذلك أقول:
إن الله تعالى أعدل العادلين، ومن عدله أن يكون نظرة إلى كل طائفةٍ من بني البشر على قدر ما يحملونه من كفر أو شرك أو إيمان.
فإذا قارنّا بين الفرس والروم، فسنجد الفرس لا يحملون من الفكر السماوي ما يحمله الروم، فقد كانوا يعبدون النار، بينما يعبد الروم الله تعالى . حتى وهم مشركون بالله، فإن شركهم هذا لم يلغ فكرة { الله }.
ولا يحمل الفرس كتاباً سماوياً، بينما يحمل الروم كتاباً اسمه الإنجيل أنزله الله على نبي لهم، اسمه عيسى ابن مريم. فهل يكون الفرس والروم بعد ذلك أمام الله سواء ؟
ثم إذا كانت المقارنة بين المؤمنين وبين أهل الكتاب، فإن الأمر لا يخرج عن القاعدة المذكورة في الفقرة السابقة. أي أن المؤمنين أعلى قدراً وحُظْوةً عند الله تعالى لسلامة معتقدهم ونصوصهم من الشوائب التي لحقت بمعتقدات اليهود والنصارى .
ولكن أفضلية المسلمين لا تنفي تداول نفاذ القدرة بين أهل الكتاب جميعاً في ملك الأرض. ومن سنّة الله تعالى في أهل الإسلام أن جعل تملكهم في الأرض مرهوناً بأمرين:
أن يطهروا أنفسهم من الذنوب، ويجعلوا نصر الله ونصر دينه همهم الشاغل، وقال تعالى:
ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﮊ محمد: ٧
وإما إذا تخاذلوا وأقبلوا على الدنيا، فإن الغلبة ستكون للأقوى شكيمة من أهل الكتاب.
انطلاق أمة كافرة، وسيطرتها على الأرض، في ظل انعدام القوة الرادعة لدى اليهود والنصارى، يهيئ للمسلمين النصر، حتى وإن كانوا متخاذلين، لأنه لا مجال لسيطرة أمة من الأمم على الأرض إلا إذا كانت من نسل إبراهيم 5
وفي كتاب الله تعالى شواهد عديدة على اشتراك أهل الكتاب جميعاً في التعلق بالله تعالى وبشرعه في الأرض وبوعده لإبراهيم 5، ومن ذلك:
قال تعالى:
ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ الإسراء: ٤
وفي معرض ذكر هاتين المرتين خاطبهم قائلاً:
ﮋ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮊالإسراء: ٦
وقد حفلت السيرة النبوية، بشواهد كثيرة على ما يملكه اليهود من علم بالكتاب، وكتمانهم لذلك العلم، ومعاداتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون علم اليقين أنه رسول الله الخاتم.
قوله تعالى على لسان اليهود والنصارى حال خطابهم للمؤمنين:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ البقرة: ١٣٥
فكان مستند اليهود والنصارى في دعوتهم هذه اشتراك ما هم عليه مع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا يعلنون بهذه الدعوة أن ما لديهم أصحّ وأسلم من ذلك الذي يدعو به محمد صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة
إن المتتبع لأحوال الأمم بعد إبراهيم 5 يجد أن السيطرة والتمكن في الأرض كان دوماً للذين انحدروا من صلب إبراهيم 5 ومن صلب دعوته، تحقيقاً للوعد الذي قطعه جل شأنه لإبراهيم، والذي ورد ذكره في صحف اليهود والنصارى.
ومن هنا يتجلى لنا الإصرار على الربط بين إبراهيم 5 وبين الناس في القرآن الكريم. فلم يكن إبراهيم 5 لقوم بعينهم، إنما كان للناس، مُسْلمهم ويهود يهم ونصرانيهم. فذكر جل شأنه كلمة الناس، لكي تسري فعالية إبراهيم 5 على هذه الطوائف. وكان بالإمكان الاستغناء عن هذه الكلمة بذكر كلمة { المؤمنون } ولكن ذكرها يجعل فعالية إبراهيم مقصورة على أنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﮊ آل عمران: ٦٨
ولذلك يتم استبعاد أهل الكتاب من صلاحية الوعد الذي قطعه جل شأنه لإبراهيم 5. ولذلك كان الخطاب بـ{ الناس } من أجل إدراجهم في ذلك الوعد. فلم تأتِ دلالة { الناس } لتشمل الخلق جميعاً مثلما هي دلالتها الفعلية، إنما جاءت لتشمل طوائف بعينها من جنس بني البشر.
وإن كان شيء من أحوال الناس يصدق على تلك الرؤية وعلى طبيعة الصراع بين أهل الكتاب، قولهم في الأمثال.
أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عَّمي على الغريب:
فالذي يحكم الولاءات بين بني البشر طبيعة العلاقات التي تجمعهم، فكان المؤمنون فرحين لانتصار الروم على فارس، لأن الروم أقرب إليهم بحكم أنهم من أهل الكتاب، ومن نسل إبراهيم 5. ولكنهم لن يفرحوا لهم إذا كان انتصارهم على طائفة مؤمنة من طوائف الإسلام، بل سيغضبون، ويجاهدون مع تلك الطائفة لرد عدوان اليهود أو عدوان النصارى. لأن نظرهم إلى هذه الحالة كان من مساحة غير تلك التي نظروا من خلالها إلى صراع الروم مع عبدة النار.
وعلى الرغم مما ذكرناه في شأن اليهود والنصارى، وانتسابهم إلى إبراهيم 5، فإن أهل الإسلام هم الأقرب إليه، والأكثر استحقاقاً للوعد الذي ورد ذكره في نصوص الكتاب المقدس.
بل إن الاسم الذي يحمله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، كان من اختيار إبراهيم 5، والقدر الذي أجراه رب العالمين في قلبه وعلى لسانه، قال تعالى:
ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ الحج: ٧٨
فهو أبونا، ومن حق الأب أن يختار اسماً لولده، فسمَّى الأمة التي انحدرت من صلبه ولده إسماعيل 5، سماها { المسلمون } .
من حرج: أي من ضيق.
والخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يخبرنا جل شأنه أنه جعل الدين الذي أُرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم دين يسر وسماحة، ثم أخبرنا بأنه دين أبينا إبراهيم5، ثُمّ أفاض جل شأنه في توثيق هذه الصلة بيننا وبينه من خلال الإشارة غلى أن ّ من أطلق علينا اسم المسلمين هو إبراهيم ذاته.
ﮋ ﯓ ﯔ ﮊ فهذه الملة التي نحن عليها هي ملة أبينا إبراهيم 5، وقد أثبت جل شأنه أبوه إبراهيم 5 للمسلمين بقوله { أبيكم }، فهل يرضى الأب أن يساق أولاده إلى العذاب، وهل يرضى الله تعالى لمن اتخذه خليلاً أن يخزيه في أولاده ؟ معاذ الله.
ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ
إن الَقْبليَّة والبعدية لا تتضح إلا من خلال النظر إلى حدّ معينّ، فكان في قوله { من قبل } أي من قبل أن يأتيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. بشريعة الإسلام، وذلك فيما ذكره جل شأنه من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام :
ﮋ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ البقرة: ١٢٨
فكان 5 مسلماً، وكذلك نحن مسلمون، فكنا بذلك أَولى به من اليهود والنصارى.
ﮋ ﯜ ﯝ ﮊ أي فيما شرعه الله تعالى لنا في كتابه الكريم.
ﮋ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ
أي يشهد على أمته، إما بالتزامها شرع الله تعالى، أو بالتهاون فيه،
ﮋ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ
كرم منه سبحانه لأمة رسوله الأعظم، أن جعل لها ماجعل لرسول صلى الله عليه وسلم ، فمثلما كان رسول الله شهيداً على أمته، جعل الله تعالى أمته شهيدة على غيرها من الأمم يوم القيامة، تشهد لمن آمن بالإيمان، ولمن كفر بالكفر، مستندة في ذلك على الخبر اليقين الذي تجده في القرآن الكريم.
ثانياً: قال تعالى
ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﮊ البقرة: ١٣٠ – ١٣٢
ﮋ ﮆ ﮊ للاستفهام، وقد خرج الاستفهام عن معناه الأصلي، ليفيد معنى النفي، أي: لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه... وفيه أيضاًَ تقريع وتوبيخ لمن يبحث عن ملة أخرى غير ملة إبراهيم 5،
ﮋ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮊ
قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة، ليست من الله تعالى [127]
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على قوله : إن شريعة إبراهيم 5 شريعة لنا، إلا ما نُسخ منها.
والسَّفه والسفاه والسفاهة: خفَّة الحِلْم { العقل }. وقيل: هو نقيض الحِلْم، وقيل الجهل. وكل ذلك قريب بعضه من بعض.
وقد اختلف علماء اللغة وعلماء التأويل في هذه الكلمات، ومبعث اختلافهم أن { سفه } فعل لازم، وهو فعل لا يأخذ مفعولاً به، ومع ذلك نجده قد أخذ مفعولاً به { نفسه } فقالوا إنه بمعنى { جَهِل } ولذلك أخذ مفعولاً به، وقالوا أموراً أخرى لا مكان لها في هذا الموضع
وأما قولنا في ذلك :
إن الذي أجرى السفاهة على نفسه هو الفرد ذاته، وبالنظر إلى الجملة الفعلية المتعدية إلى المفعول به تحتاج إلى ذاتين، ذات الفاعل وذات المفعول به، والجملة الفعلية ذات الفعل اللازم لا تأخذ إلا ذاتاً واحدة هي ذات الفاعل.
لذلك فإن { من سفه نفسه } تحمل ذاتاً واحدة هي الفاعل والمفعول به في آنٍ واحد، ولذلك تمّ فَرْجُ نوعي الجملة في إطارٍ واحد. هذه رؤية
ورؤية أخرى هي أن السَّفاهة تقع على النفس من خلال ما يتوارد عليها من أفكار سقيمة، فكان في قوله { سفه نفسه } إشارة إلى أن العقل هو من قام بفعل إلقاء السفاهة، وكانت النفس هي من وقع عليها ذلك الفعل .
ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮊ
أي اخترناه للرسالة، فجعلناه صافياً من الأدناس. واللفظ مشتق من الصفوة ، ومعناه: تخيرّ الأصفى[128]
وكان من أجلّ أشكال الاصطفاء أن اتخذه الله خليلاً، وأن جعل ملّته هي الملة الباقية إلى يوم القيامة، وأن جعل الأنبياء الذين أتو من بعده. كلهم من ذريته....ألخ.
ﮋ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮊ
ذكرت قبل ذلك بنفس الحرف، وفصَّلنا فيها القول، فَلْيُرْجَع إليها .
ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮊ
أي أن ذلك الاصطفاء تجلي في اللحظة التي بدأت فيها المكاشفة بينه وبين رب العالمين، إذ قال له { أسلم } أي: إني أنا الله ، لا إله إلا أنا، فاعبدني ، ولا تعبد سواي
ولا أرى أن قوله { أسلم } جاء مجرداً من الحيثيات الواقعية التي تدعمه, ويؤيِّد هذا الرأي ما كان من شأن موسى 5:
ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﮊ طه: ١٠ – ١٢
فجاءت كلمة الله تعالى إلى موسى مقرونة بالمعجزات التي تؤيد ما أُلْقي إليه، فكانت النار تنبعث من الشجرة، وهي كما يذكر المفسرون، باقية على حالها خضراء يافعة وليس هذا فحسب، فقد جاء في موضعٍ آخر من كتاب الله:
ﮋ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊطه: ١٧ – ٢٠
فكان في انقلاب العصى إلى أفعى معجزة أخرى جعلته يؤمن إيماناً قاطعاً بأن الذي يخاطبه هو رب العالمين، وأنه على كل شيء قدير.
وكذلك هو الشأن مع إبراهيم 5، قال له ربه { أسلم } من خلال حيثيات عديدة الم ترد الإشارة إليها في كتاب الله تعالى. والله أعلم
ﮋ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮊ البقرة: ١٣١
لم يقل { الله } لأن بداية معرفته بالله تعالى كانت من خلال مظاهر الربوبية الموجودة على الأرض، فكان، 5 يدرك أن وراء هذه المظاهر رباً قائماً عليها يرعاها، ويدبر أحوالها، وعندما جاء العلم المباشر من الله تعالى عرفه، فخاطبه بما قادته إليه، فطرته السليمة من قبل ؟
ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮊ
ﮋ ﮦ ﮧ ﮊ أي بالملة، وقيل: { أسلمت لرب العالمين }[129]
ولا فرق بينهما، لأن ملة إبراهيم 5 هي الإسلام لرب العالمين.
وبنو إبراهيم 5 هم.
إسماعيل 5 من هاجر القبطية.
وإسحاق 5 من ابنه عمه سارة.
ومن { منظور بيت يقطن الكنعانية } ولد له.
مدين ومداين ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ
وفي كتاب { الرسل والملوك } لابن جرير الطبري: قسم أول ص345 طبع أوربا:
{ يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر } .
وفي تاريخ ابن الأثير
{ نفشان، ومران، ومديان ، ومدن، ونشق ، وسدح } [130]
اختلفت الروايات في تصحيف الأسماء، ولكنها اتفقت جميعاً على أنه 5 كان له { قنطورا بنت يقطن الكنعانية }
وبعد وفاته 5، جاء حفيده يعقوب 5 في زمنه المقرر له و أوصى أولاده بنفس الوصية التي ألقاها إبراهيم 5.
فما هي الوصية ؟
{ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
أي أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام، ودفعكم وكأنهما، إبراهيم ويعقوب عليهما السلام، يشيران بذلك إلى أنن موت الإنسان مسلماً هو مناط نجاته يوم القيامة.
وقد أكدت هذه الفكرة بمؤكدين إشارة إلى أثرها الفعال في حياة الإنسان : نون التوكيد الثقيلة في الفعل { تموتن } ومجيء الجملة على نسق يفيد حصر الموت للإنسان وهو متصف بالإسلام. فيما يسمى بأسلوب الحصر.
وقد يقول قائل، فأين مكان اليهودية والنصرانية، وهل هما من الإسلام ؟
فأقول: قال الله تعالى:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﮊ آل عمران: ٨٤ – ٨٥
فيعد أن ذكر الله تعالى كل الرسل والأنبياء تفصيلاً وإجمالاً ابتداءً من إبراهيم 5 إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ذكر الحالة الواجبة لمن آمن بهم، وهي أن يكون مسلماً.
وفي الآية الثانية أقرّ أنه لا دين في الأرض سوى دين الإسلام والذي يعني الخضوع لله تعالى من خلال الامتثال لتشريعات، فإذا فعل اليهود ذلك فهم مسلمون وكذلك النصارى. ولكنهم حرفوا دينهم ونسبوا إلى الله تعالى من القول مالم يقله، فكان الأنسب لهم أن يتسموا باليهود والنصارى بعيداً عن صفة الإسلام التي تمردوا عليها باختيارهم إذ حرفوا كلام الله تعالى.
الباب الخامس
دعاء إبراهيم 5
ذكر جل شأنه في كتابه الكريم عدداً من أدعية إبراهيم 5 دعا بها ربه، وقد ثبت بالعقل والنقل أن دعاء الأنبياء مستجاب، فما بالك إذا كان ذلك النبي أباً للأنبياء، وخليلاً للرحمن ؟
وهذه الأدعية هي :
ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮊ البقرة: ١٢٦ – ١٢٩
ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﮊ إبراهيم: ٣٥ – ٤١
ﮋ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﮊالشعراء: ٨٣ – ٨٩
ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ الصافات: ١٠٠
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بيت آمناً }
جعل : تفيد معنى التصيير، أي التحويل من حالة إلى أخرى، فكان دعاؤه 5بهذه الصياغة يشير إلى أن هذا البلد لم يكن آمناً، فدعا ربه أن يجعله آمنا .
وقد اختلف العلماء في مكة، هل صارت حرماً آمناً بسؤال إبراهيم، أم أنها كانت آمنة قبل ذلك على نوعين:
أحدهما: أنها لم تزل حرماً من الجبابرة ومن الخسوف والزلازل وسائر المثُلات التي تحل بالبلاد منذ القدم، وأما دعاء إبراهيم 5 لها بالأمن، فقد كان مقصوراً على أمنها من القحط والجدب والغارات [131]
واحتج أصحاب هذه المقالة بحديث ابن عباس، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة
{ إن هذا البلد حرّمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يُجْتبى خلاها } فقال ابن عباس: إلا إلا ذخر يارسول الله، فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال { إلا ذخر } أخرجه مسلم في صحيحه .
والثاني: أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم 5كسائر البلاد، وبدعوته صارت حرماً آمناً بعد أن كانت حلالاً
واحتج أصحاب هذه المقالة أيضاً بقول رسول الله 4، الذي قال : إن إبراهيم حرَّم مكة، ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة} وهذا الحديث أيضاً رواه مسلم في صحيحه
وعلقّ أحدهم عل ما في الحديثين من شبهة التعارض، فقال:
ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكونه الحرمة في زمن آدم، وما تلاه من أزمنة عامرةٍ بالإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها، وإظهار ذلك بعد اندثار أثر البيت على وجه الأرض[132]
وأما تعليقنا على ذلك، فأبدؤه ببعض ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{ ... فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عن الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال:
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ إبراهيم: ٣٧
ففي تلك الساعة التي دعا فيها إبراهيم ربه لم يكن البيت قائماً، ولم يكن له أدنى أثر على الأرض، فكيف استقبل بوجهه البيت وهو غير موجود، وكيف يقول { إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم } إلا إذا كان لديه علم من الله تعالى بأن في هذا المكان بيت حرّمه الله تعالى من قبل، فأخذ هذه الصفة، فما كان من إبراهيم 5 عندما ذكره إلا أن ذكره بصفته
فهو، إذا، حرام منذ الأزل، منذ أبينا آدم 5، قال تعالى :
ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊآل عمران: ٩٦
أما دعاء إبراهيم 5 للبيت أن يكون آمناً في ظل أمنه الأزلي، فليس من باب أنه يرجو له صفة لم تكن موجودة فيه من قبل، بل من باب آخر، ينحصر في ركنين.
أن الطلب لا يعني أنك مفتقرٌ إلى المطلوب، فقد يُطلب الشيء وهو حاصل، تقول الله تعالى في كتابه الكريم:
ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮊ النساء: ١٣٦
فها هو جل شأنه يأمر عباده بالإيمان وهم مؤمنون، بدون أن يعني الأمر به أنهم مفتقرون إليه، وهذا باب من أبواب الدلالة يسميه البلاغيون { التأكيد }
ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للمدينة في صاعها، ومدّها، فاستجاب له رب العالمين كرامة لرسوله، وفضلاً وكرماً منه سبحانه. وكذلك هو الحال مع بيت الله المحرم، أراد جل شأنه إن يحقق الكرامة لذاتين.
ذات البيت بأن جعل خليل الرحمن يقصد ربه داعياً له بالأمن وغيره
وذات إبراهيم 5 التي أراد لها جل شأنه أن يكون لها نصيب في ذات البيت المقدسة، فجعل من دعائه سبباً للمزيد من الأمن والرحمة على ما كان موجوداً فيه من قبل. وليس هذا فحسب، بل جعل له مقاماً بالقرب من البيت، وأمر الذين يقصدونه بالصلاة فيه { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }.
وقوله { هذا } إشارة إلى الوادي، أي أنه دعا ربه أن يجعل هذا الوادي بلداًُ عامراً بالحياة كغيره من البلدان، ولكنه يتميز عنها جميعاً بأنه بلداً آمن.
ﮋ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﮊ البقرة: ١٢٦
من مظاهر الرحمة التي يسرها جل شأنه على لسان إبراهيم 5 انه دعا بالأمن للبلد وأهله، ونظر في أحوال الوادي، فوجد أنه غير ذي زرع، فلم يسأل الله تعالى أن يجعله جنةً خضراء، لأنه يعلم أن لله تعالى مسارات عديدة لتوفير الرزق غير باب بنات الزرع، لأنه العزيز الحكيم، قال تعالى:
ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮊ القصص: ٥٧
ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮊ
أي يُجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد

ومّر معنا في الحديث الذي رواه البخاري رسول الله 4 أن إبراهيم 5 عند ما زار مكة، وجد زوج ابنه إسماعيل، فسألها: ما طعامكم، قالت: اللحم قال: فما شرابكم ؟ قالت: الماء . فقال: { اللهم بارك لهم في اللحم } .
فكانت بركة اللحم في تلك الذبائح التي تذبح في مواس الحج، والتي اشترط الله تعالى لقبولها أن تكون { هدياً بالغ الكعبة }[133] أي يبلغ أهلها.
وكانت بركة الماء في { زمزم } التي لم ولن ينقضي ماؤها إلى آخر الزمان.
{ من آمن منهم بالله واليوم الآخر }
جعل الدعاء بالرزق مرهوناً بالإيمان بالله واليوم الآخر.
فاستجاب له رب العالمين، ولكنه أضاف إلى حصول الرزق قانوناً آخر:
ﮋ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﮊ البقرة: ١٢٦
أي أن حصول الرزق سيكون بإذن الله تعالى لمن آمن بالله واليوم الآخر، ولكنه سبحانه يعلم أن سيكون في أكناف الحرم من يكفر بالله واليوم الآخر ، فتوعد هؤلاء الذين يكفرون بالله في ظل تحقق الرزق في بلد ليس مؤهلاً للحياة فيه، توعدهم بعذاب النار يوم القيامة.
وهذا المسار يشبه ما كان مع عيسى 5، الذي سأله قومه أن يدعو الله بان تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال :
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ المائدة: ١١٤
فجعل جل شأنه عذاب من يكفر بعد نزول المائدة لا يرقى إلى مثله عذاب كافر آخر، لأنه لم يرَ مثلما رأوا.
وكذلك أهل مكة، كان الوادي الذي يقطنون فيه غير زرع وماء، ولم يكن لأحد أن يعيش فيه فأصبح بدعاء إبراهيم 5 عامراً بالماء واللحم والثمرات، فكان من يكفر في ظل تجلي القدرة الإلهية في ذلك المكان مستحقاً لعذاب النار، والعياذ بالله.
ﮋ ﰎ ﮊ الاضطرار هو أن يُقبل الإنسان على أمرٍ لا يريده، ولكن هل يجد عنه محيصاً، وهذا هو الحال من كفر يوم القيامة، لن يجد طريقاً سوى طريق جهنم .
وبما أن الاضطرار لا يتحقق إلا في ظل الافتقار إلى ورود النار يعني انهم لن يجدوا وسيلة تنفي عنهم هذا الاضطرار، بمعنى أن الرحمة الإلهية لن تكون متيسرة لهم، على العكس من الكافرين الآخرين، الذين قد يجد بعضهم وسيلة لا تجعلهم مضطرين إلى عذاب النار .
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ البقرة: ١٢٧
ﮋ ﭔ ﮊ جمع قاعدة، وهو الأساس والأصل لما فوقه. رَفْعُ الأساس: البناء عليه، فإذا بُني عليه نُقل عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع.[134]
فكان فعل إبراهيم 5 أن جاء إلى القواعد، فرفعها، وفي ذلك دلالة على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم 5، ثم اندثرت آثاره من على وجه الأرض بقدرة الله تعالى، وطمست قواعده، وعند ما أراد جل شأنه لإبراهيم 5 أن يرفع تلك القواعد، أي أن يظهرها بالبناء، كشف له عن تلك القواعد. وقد اختلفت الأقوال في طريقة الكشف هذه، بدون أن يستند أي منها على خبر من القرآن الكريم أومن السنة النبوية، ولذلك ليس لنا أن نعتمد واحداً من تلك الأقوال ونكتفي بأن نقول : إن طريقة الكشف بريح تزيل ماتراكم من تراب، أو بالسكينة التي دلته 5 على مساحة البيت، أو بغير ذلك، فإن ذلك كله لا يتنافى مع قدرة الله تعالى، التي تستطيع أن تخترق كل ماهو معهود لدى الإنسان على الأرض، فالذي لا يعدو كونه خيالاً أو مستحيلاً في عرف الإنسان، فإنه حقيقة وواقع أمام قدرة الله تعالى.
أما الحجر الأسود، فإنه ليس طارئاً على بيت الله المحرم، منهما رفيقان غلى يوم القيامة، مما يستدعي أن يكونا رفيقين منذ البداية، فكان البيت الحرام أول بيت وضع للناس، وأوليته تستدعي أولية الناس، فكان أول الناس على الأرض آدم 5وأولاده.
وفي ذلك الوقت كان الحجر الأسود يحمل نفس القدسية التي يحملها الآن، وبالنظر إلى أن الله تعالى إذا أراد أن يحقق القدسية لذات بعينها، فإنما يجريها من خلال أحوال معنية، يسبغها على تلك الذات . فكان الحجر الأسود من دون حجارة الأرض جميعاً يحمل هذه القدسية.
فأين كان الحجر الأسود بعد اندثار البيت ؟
نقل المفسرون عن ابن عباس قوله أن جبل { أبو قبيس } المشرف على البيت نادى إبراهيم 5 قائلاً:
ياإبراهيم، ياخليل الرحمن، إن لك عندي وديعة، فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة، كان آدم قد نزل به من الجنة[135]
وبدون النظر في مدى صحة هذه الرؤية، نقول: إن إبراهيم5 لم يكن يعلم أساس البيت حتى كشفه له رب العالمين، ولم يكن ليعلم بأمر الحجر الأسود من غير أن يخبره رب العالمين بموضعه، أو يسخّر له من الموجودات ما يدله على مكانه، مثلما رأى ابن عباس رضي الله عنه
ﮋ ﭘ ﭙ ﭚﮊ
كل منهما، إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، دعا ربه أن يتقبل منه ذلك العمل، وهذا نهج كل مؤمن مع ربه، إذا أنجز عملاً يرضاه الله تعالى
وفي اتحاد الدعاء ووحدة العمل إشارة إلى وحدة الذات الرسالية فيما بين إبراهيم 5 وولده إسماعيل الذي كان أبا لمحمد4 وقد وثق رب العالمين هذا الاتحاد في قوله:
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﮊ آل عمران: ٦٨
ﮋ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ البقرة: ١٢٧
أي ندعوك بهذا الدعاء، ونحن على يقين بأنك تسمع دعاؤنا سَمَاَع عليم بأحوالنا وقلوبنا.
ﮋ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﮊ
جعل: تفيد معنى التصيير، ومن ذلك ندرك أن إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام كان يريدان من ربهما أن يجعلهما مسلمين له، فهل يعني ذلك أنهما لم يكونا مسلمين ؟
إن عباد الله الأتقياء مهما ارتقوا في طاعتهم وتقواهم، فإنهم أبداً، يظنون في أنفسهم التقصير، ولذلك تجدهم دائماً يدعون ربهم، راجين منه المزيد من مظاهر الإيمان والطاعة.
وهما، عليهما السلام، إذ يطلبان الإسلام من رب العالمين، لا يطلبانه بأركانه المطلق، والذي هو الاستسلام والخضوع، فكان دعاؤهما بالإسلام يعني وصولهما إلى مطلق الاستسلام والخضوع لله تعالى.
ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ
ورد في كتب التفسير أن { من } في قوله { ومن ذريتنا } للتبعيض، مشرين إلى أن السبب في ذلك هو أن الله تعالى أعلم خليله أن سيكون من ذريته من هو ظالم لنفسه مبين.
والأمة المسلمة التي جعلها الله تعالى من ذرية إبراهيم 5 هي كل من آمن به واتبعه، ولو كان صاحب الدعاء فقط إبراهيم 5 لكانت دلالة الذرية متضمنة لنسل إسماعيل ونسل إسحاق 5، ولكن اشتراك إسماعيل 5 في الدعاء جعل الاستجابة لدعاء إبراهيم جزئية ولدعاء إسماعيل كلية، لأن الأمة المسلمة هي تلك التي انحدرت من إسماعيل 5.
وقد استجاب جل شأنه لهما فجعل من إسماعيل 5أمة مسلمة من خلال أحد ذريته ، محمد صلى الله عليه وسلم
ﮋ ﭪ ﭫ ﮊ
طلبا من الله تعالى أن يريهما مناسك العبادة في البيت الحرام، إذ لم يكونا على علم بأي مظهر من مظاهر مناسك الحج، إذ لم يكن البيت ظاهراً، أما وقد أظهر الله تعالى لهما البيت، ونبههما إلى قدسيته، أدركا أنه لابد لهذا البيت من مناشط عملية تندرج في إطار المناسك، فَدَعَوا الله أن يريهما هذه المناسك فكانت هذه المناسك التي يؤديها حجاج بيت الله الحرام هي ما ألقاه جل شأنه إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك عندما تحدثنا عن الرؤيا التي رآها إبراهيم 5
ﮋ ﭬ ﭭﮊ اختلف في هذا، من منطلق أن الأنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب[136]
وكنا قد أشرنا إلى ذلك بقولنا إن المؤمن في حال ازدياد الإيمان يزداد لديه عدم الاطمئنان لما يحمله من إيمان، لأنه يرى أن ذات الله تعالى تستحق خضوعاً وعبادة أكثر مما هو عليه، ولذلك يرى نفسه أبداً مقصراً في حق الله تعالى، ومن أجل ذلك كان طلب التوبة من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وعلّل إبراهيم 5 وولده طلب التوبة من الله تعالى بقولهما:
ﮋ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﮊ
أي: سميت نفسك { التواب الرحيم } لترحم عبادك بالتوبة عليهم، وهو اسم من أسمائك سميت به نفسك، وإقرار العباد به يتحقق من خلال مسارين:
الإيمان به من قبل العباد
تحقق التوبة والرحمة لهم، إذ كيف نشهد لله تعالى بأنه هو الرازق إذا لم نشهد أثر هذا الاسم على أنفسنا ؟
وكذلك التواب الرحيم، لا تتجلى دلالته أمام العباد إلا من خلال أثره عليهم في الدنيا والآخرة.
ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ
البعث: الإخراج، أي إخراج الذات من حالة إلى أخرى، فالموتى الذين يبعثهم اله تعالى يوم القيامة، إنما يخرجهم جل شأنه من حالة الموت إلى حالة الحياة.
ومن خلال هذه الدلالة نستطيع القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في حالة، لها خصائصها في علم الله تعالى، فبعثه الله، أي أخرجه من هذه الحالة إلى حالة أخرى، وهي الحالة الآدمية. وقد يدعم ذلك قوله 4، مقارناً نفسه بأنبياء الله.
{ كنت أولهم في الخلق، وآخرهم في البعث }[137]
دعا إبراهيم 5 ربه بهذا الدعاء، وهو لا يعلم أن ذلك الرسول قدرٌ قدَّره رب العالمين، فأجرى الله تعالى في قلبه هذه الدعوة، ليدعو بها، فإذا دعا بها تحققت كرامتان:
كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحققت من خلال كونه استجابة لدعوة إبراهيم 5، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك:
{ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى } رواه أحمد
وكرامة لإبراهيم 5، تجلت من خلال كون خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه.
وقوله { منهم } أي من جنسهم، لا أن يكون طارئاً عليهم من مكان آخر، مثلما كان حال لوط 5 مع القرية التي كانت تعمل الخبائث، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربياً خالص النسب....
ﮋ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ
التلاوة هي القراءة، وهي أكثر لصوقاً بالقرآن الكريم من أي كلمةٍ أخرى قال تعالى
ﮋ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﮊ
فآيات الله المتلوة هي كلماته التي أنزلها جل شأنه على عبده محمد صلى الله عليه وسلم .
إن تعليم الكتاب والحكة له مردود نفعي على الإنسان في الدنيا والآخرة، وكذلك التزكية من قِبَل رسول الله لها هذا المردود. فهل في تلاوة الآيات من خير تناله الأمة
قال تعالى :
ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﮊ الأعراف: ٢٠٤
فجعل جل شأنه الرحمة منوطة بالاستماع إلى كلمات القرآن ويُؤَيِّد ذلك أننا في واقعنا المعاش، نجد أن الاستماع إلى قراءة القرآن يفعل في النفوس والقلوب مالا تفعله قراءته.
قال تعالى:
ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ الأنفال: ٢
فجعل جل شأنه ازدياد الإيمان والتوكل عليه سبحانه مرهونين بالاستماع إلى آيات الكتاب.
ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﮊ
في الآيات استخدم الفعل { يتلو }، ومع الكتاب والحكمة استخدام الفعل { يعلّم }، والتعليم عملية تلقينية، تخضع للمد والجزر سواء من قبل العلم أو من قبل المتعلمين.
وأُسند فعل التعليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن قومه كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، لأنه دعاهم إلى طلب العلم والتعلم، فامتثلوا لأمره، وكان صلى الله عليه وسلم ، بما يتلوه من آيات اله الداعية إلى طلب العلم، والنظر في الكون والحياة، إنما يعلمهم الكتاب والحكمة، أي فعل الكتابة، الذي لا يتحقق إلا من خلال القدرة على النظر والاستنتاج والتحليل .
وعُطفت كلمة { الحكمة } على { الكتاب } إشارة من سبحانه إلى أن الكتاب الحق، هو الكتاب الذي ينطق بالحكمة فما هي الحكمة ؟
إنها هبة من الله تعالى، أجراها على يد رسوله الأعظم من خلال، القرآن الكريم الذي ألقاه إليه، فكان في تبليغه رسالة ربه، مستحقاً لأن يُسْند إليه فعل تعليم الحكمة.
قال تعالى:
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﮊ البقرة: ٢٦٩
لأن الحكمة رؤية، والرؤية لا تتحقق إلا من خلال النور، والنور هو كتاب الله تعالى قال الله
ﮋ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﮊ التغابن: ٨
فإذا نظر صاحب الحكمة إلى أحوال الدنيا والآخرة، فستكون رؤيته حقاً، لاستناده على نور الإيمان بالله وتقواه، وقد يقول أحدكم: لقد جعلت الحكمة مقصورة على من آمن بالله ورسوله والقرآن، في حين أننا نجد حكماء، ينطقون بالحكمة، وهم على غير ملة الإسلام ؟
فأقول : نعم، هذا القول صحيح وصحته لا تنفي ما قلته، لأن الحكمة لدى هؤلاء جاءت من خلال عقل وافٍ ونفسٍ زاهدة، تشبه عقول ونفوس المؤمنين بالإسلام، ولكنها حكمة لا تخلو من خلل، لافتقارها إلى النور المبين، إن الله تعالى لا يترك قوماً خلواً من قبس من النور يحجزهم عن الاستغراق في الجهل والضلالة، لأن خلوها من ذلك يحتم إهلاكهم، ومن الشواهد على ذلك ما كان من لوط 5 عندما جاءه قومه يهرعون إليه، طلباً لفعل الفاحشة فيمن جاءه ضيفاً.
ﮋ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ هود: ٧٨
فهو، 5، لم يسألهم أن يكون فيهم رجل مؤمن بالله، يرده إيمانه ويرد القوم عما يريدون، إنما كانوا يرجو أن يكون فيهم رجل رشيد، أي صاحب عقل على استحقاقهم لعذاب الله تعالى، وقد كان .
ﮋ ﭿﮊ الزكاة هي التطهير، والتطهير لا يكون إلا من خلال إزالة كل أشكال الدنس. والدنس هو كل ما حرمه الله تعالى. وجعل جل شأنه التزكية على شكلين :
التعاليم الواردة في القرآن الكريم، تحقق الطهارة للمرء من خلال الالتزام بالأوامر، واجتناب النواهي. فكانت سبة هذا النوع من التزكية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال كونه هو المبلغ عند ربه.
ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة كانت سبباً للطهارة من خلال عدة شواهد:
ﮋ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮊ
فقوله { إن صلاتك سكن لهم } أي: دعاؤك لهم سبب من أسباب نزول الرحمة عليهم.
ب- وعند ما نزل قوله تعالى:
ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮊ الضحى: ٥
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ فو الله لا أرضى وواحد من أمتي في النار } [138]
أي أن الذنوب التي تقحم صاحبها في النار، سينجو منها صاحبها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يتحقق رضاه وواحد من أمته في النار .
ﮋ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮊ
ذكر 5 من أسماء الله تعالى ما يتلاءم مع المسار الذي تتحقق من خلال تلك الدعوات، وهو { العزيز الحكيم }
ولا أقول مثل ما قال الأولون إن { العزيز الحكيم } في هذا الموضع اسمان، كل منهما له مسار مختلف، بل أقول : إنهما اسم واحد، تتجلى من خلاله قدرة الله تعالى على تحقيق تلك الأدعية .
فالعزيز هو الذي يفعل ما يريد، ولا يستطيع أحدٌ أن يردَّ ما أراده. ولو كان هذا الاسم فقط هو المذكور في هذا السياق، لكان معناه أنه سيحقق ما يريد بقدرته الفائقة، بدون النظر إلى الهيئة التي ستكون عليها ولكنه، سبحانه، ذكر { الحكيم } إشارة إلى أن هذه القدرة الفائقة. جعل لها، جل شأنه مساراً ذكياً، لا يبلغه أحد من العالمين، وهو مسار الحكمة، التي تتيح للشيء أن يتحقق في ظل أنسب الأحوال، التي قدرها جل شأنه على هذه الأرض
ﮋ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ
وقوله { اجعل هذا البلد آمناً } مَّر معنا فيما سبق، ولكنه هنا يختلف في أنه جاء معرفة فقال { البلد }، وجاء الأول بدون الألف واللام { بلد } جاء في اللغة إن النكرة تفيد العموم، وإفادتها للعموم تعني أن من ذكرها لا يملك العلم الوافي بمدلول المسمى، فكان أن ذكر إبراهيم 5 ذلك المكان بقوله { بلد } إشارة إلى أنه لم يَقْمْ، وبعد قيامه وظهور أسباب القيام: الماء والبيت، أصْبح معلوماً، فجاز ذلك ذكره بالألف واللام، لأنه أصبح معرفة.
ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ إبراهيم: ٣٥
أي اجعلني جانباً عن عبادتها.
والمعنى المراد: واحفظنا من أن ننساق على عبادة الأصنام.
فهل بالإمكان أن يصبح النبي عابداً لصنم من الأصنام ؟
قال صلى الله عليه وسلم :
{ اللهم يا مُثبّت القلوب ثبت قلوبنا على دينك } رواه ابن ماجه
وما سمي القلب قلباً، إلا لأنه يتقلب من حال إلى حال، وقد أدرك أبونا إبراهيم 5 ذلك، لأنه يعلم
ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮊ الأعراف: ٩٩
ثم إن الذي يذوق حلاوة الإيمان، تجد أبداً يخشى أن يعود القهقرى في إيمانه بالله تعالى، وقد جسَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الإيمان الحالية لدى المؤمن بقوله:
{ وأن يٌلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر } رواه مسلم النسائي
وكذلك كان سيدنا إبراهيم 5، الذي وصل إلى درجةٍ أصبح فيها خليلاً للرحمن، فكان من شده وجده بهذه الحالة الإيمانية وحرصه عليها، يخشى خشية شديدة من زوالها، فلا يجد سوى التوجه إلى ربه الكريم بأن يحفظ عليه وعلى أبنائه نعمة التوحيد.
ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﮊ إبراهيم: ٣٦
لقد راعى إبراهيم 5 سنة الله في خلقه، وهي أن يبقى الخلق على صنفين، كافرين ومؤمنين، فلم يدعُ ربه أن يصرف الناس جميعاً عن عبادة الأصنام بقدرته، واكتفى بطلب ذلك له ولأبنائه، لأنه يعلم أن ذلك لا يتعارض مع سنة الله تعالى.
ولذلك نجده في حديثه عن الناس قد انتهج منهجاً آخر في الدعاء، فأشار بداية إلى أن الأصنام أضله كثيراً من الناس، وأسند الفعل إليهن مجازاً، لأن الأصنام جمادات لا تعقل، ولا تدعو أحداً إلى الشرك بالله تعالى.
وقوله { كثيراً من الناس } كأنه قراءة لما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم :
ﮋ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﮊ يوسف: ١٠٣
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮊ إبراهيم: ٣٦
جاءت الهندسة التعبيرية في هذه الكلمات على الصورة التالية:
فمن تبعني فإنه مني
ومن عصاني فإنك غفور رحيم.
فالناس مع إبراهيم 5فريقان: فريق تبعه، وآمن به وبدعوته وفريق لم يؤمن به ولا بدعوته فأقرّ لمن تبعه بأنه منه، وأما من عصاه، فإن السياق يستدعي قوله فهو ليس مني. ولكنه ترك ذلك ولجأ إلى مسار آخر، تتجلى فيه عظمته ورحمته بالناس، وهو قوله { فإنك غفور رحيم }
{ فهو مني }، التعبير بـ{ من } يجعل من إبراهيم 5 أصلا لكل المؤمنين في الديانات الثلاث.
{ فإنك غفور رحيم } أحال 5 الذين لم يؤمنوا إلى الله تعالى، ولم ينسبهم إليه مثل ما فعل مع المؤمنين، وفوق ذلك، فإنه لم يُحلهم إلى عذاب الله تعالى ونقمته، بل أحالهم إلى مغفرته ورحمته. مع أن المعصية المشار إليها في الآية هي عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد حاول المفسرون تأويل هذه المعصية بالذنوب التي يقترفها المؤمنون بدعوته ، وهو تأويل بعيداً جداً عن هيكل الدلالة في الآية، فقد ذكر في البداية أن فريقاً كبيراً من الناس منكبون على عبادة الأصنام، وجاء إبراهيم 5 يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، فكان الناس أمام ذلك فريقين، فريق تبعه وآمن به، وفريق عصاه، إي بقى مصراً على عبادة الأصنام.
وليس بمُسْتنكر على إبراهيم أن يرجو المغفرة والرحمة لمن بقى مصراً على عبادة الأصنام، فها هو، بعد أن جاءت الملائكة في صورة بشرية، وأخبرته أنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، لأنهم لم يؤمنوا بما دعاهم إليه لوط 5، ها هو يجادلهم في قوم لوط، ليرد عنهم العذاب، ولم يكف عن ذلك إلا بعد أن جاءه أمر الله قائلاً:
ﮋ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ هود: ٧٦
ومما يشير إلى أن المعصية المرادة في الآية هي عدم الإيمان بدعوته 5، قوله لأبيه { آزر } يوم القيامة: ألم أقل لك لا تعصني ؟ وقد كانت معصية أبيه له في الدنيا أنه لم يؤمن به.
إذا كان هذا حال إبراهيم 5مع الذين لم يؤمنوا بدعوته، فكيف هو الحال رب العالمين معهم ؟ أيكون إبراهيم 5 أكثر رأفة ورحمة بالكافرين والمشركين من رب العالمين ؟ وهو الذي لا يعدو كونه شكلاًُ من أشكال رحمة الله تعالى بالناس ؟
ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ إبراهيم: ٣٧
ﮋ ﮆ ﮇ ﮊ إسماعيل 5.
ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ مكة المكرمة.
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮊ الكعبة المشرفة، وفي ذلك دليل على أنه 5 أُلقي إليه العلم بأن هذا الوادي المقفر هو موضع بيت الله المحرم، في ظل خلو المكان من أي إشارةٍ تدلُّ على ذلك
ﮋ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ
خص الصلاة بالذكر، إذ يتجلى فيها خضوع الإنسان وتذلله لخالقه، وبقيامها يقوم الدين، وبهدمها ينهدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
{ رأس الأمر وعموده الصلاة } الإمام أحمد
واللام في { ليقيموا } لام التعليل، استخدمت في هذا التعبير لتفيد أن العلة التي من أجلها كان إسكان الذرية في هذا الوادي، ومن ثَمّ إقامة البيت، هي إقامة الصلاة. وفي ذلك إشارة إلى أن انقطاع الصلاة الخالصة لوجه الله من البيت المحرم سبب لزواله، لأن علة وجوده غير موجودة. وقد أشرنا إلى من ذلك فيما سبق.
ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ
ﮋ ﮓ ﮊ جمع فؤاد، وهو القلب.
ﮋ ﮖ ﮗ ﮊ هوت الناقة، تهوي هُوَّياً، فهي هاوية، إذا عدتَ عدواً شديداً وقيل: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال { من الناس } فهم المسلمون. ومعنى { تهوي إليهم }
فقوله ﮋ ﮔ ﮕ ﮊ أشار إلى بعض الناس، لأنه 5 يعلم سنة الله تعالى في خلقه :
ﮋ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﮊ يوسف: ١٠٣
فكان يعلم أن المؤمنين قله، وكان يعلم أن هذا البيت ليس لغير الموحدين أن يأتوه، فجاء قوله مطابقاً لمقتضى الحال.
والقلب هو جوهر الإنسان، فقال 4:
{ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب } رواه مسلم وابن ماجه والدارمي.
ولذلك كان ذكر { الأفئدة } إشارة إلى أن كرامة البيت لدى الناس لا تتحقق إلا من خلال إقبال القلوب عليه، لا من إقبال الأجساد فقط وقد لاحظت فيمن عاد إلى أهله بعد أداء فريضة الحج، لا حظت أنه يرجو بكل شوق ولهفة أن يعود إليه من جديد، فما يشير إلى أن العلاقة بين البيت الحرام وبين قلوب المؤمنين علاقة خفية وسرية، لا نملك لإدراكها سوى بعضٍ من الإشارات التي ألقاها جل شأنه في كتابه العظيم، ورسوله الكريم في أحاديثه الشريفة.
وقوله { تهوى } يشير إلى شدة إقبال تلك القلوب، لما توحى به هذه الكلمة من شدة السقوط من الأعلى إلى الأسفل، فإذا هوى الشيء إلى الأرض استقر وسكن في موضع هُوِيِّة، وكذلك هو الحال مع قلوب المؤمنين وأجسادهم، إذا وصلت إلى البيت الحرام استقرت وسكنت، وكان سبب استقرارها وسكونها ما قدره جل شأنه لعباده الحجاج من رحمة، والتي أفصح عنها صلى الله عليه وسلم بقوله :
{ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }
ﮋ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮊ
ﮋ ﮘ ﮙ ﮚ ﮊ بسطنا القول فيها عند تعرضا إلى قوله
ﮋ ﮛ ﮜ ﮊ
لعل للترجي، فكان في ذلك دلالة على أن إبراهيم 5 كان يرجو لأهل البيت أن لا يخرجوا عن صفة الشكر لله تعالى، فقرن الشكر بالرزق، لأن الإنسان بطبيعته المادية، أكثر إدراكاً لآثار قدرة الله تعالى من خلال الشواهد المادية، فكان في تمتعه بالنعم المادية ما يوجب عليه الشكر لمن أسبغ عليه هذه النعم، قال تعالى:
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﮊ النحل: ١٨
ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﮊ إبراهيم: ٣٨
أي تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بوادٍ غير ذي زرع [139]
النص يشير إلى ما قيل في التأويل المذكور، ولكنه لا يقتصر عليه، بل ينساق إلى كل ما هو مخفي، وكل ماهو مخفي، وكل ما هو معلن لدى بني البشر، ويؤيد ذلك أنه كان من الأنسب أن يقول { أخفى وأعلن } إذا كان يريد نفسه فقط، أما إذا أسند الفعلين إلى ضمير الجماعة، فإن في ذلك إشارة إلى الآدميين جميعاً في كل زمان ومكان قال تعالى:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﮊ الملك: ١٣
إذا، فقد أثنى إبراهيم 5على ربه بأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون ثم امتدحه بأكثر من ذلك ،فقال
ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮊ إبراهيم: ٣٨
فليس علمه جل شأنه بالأشياء مقصور على الأرض وقاطنيها، بل إنه يعلم أيضاً ما في السموات، ولا يخفي عليه مما يجري فيها شيء، وفي ذكر السماء وأرض في مسار علم الله تعالى بالأحوال الخفية والظاهرة إشارة إلى أن السموات مثلها مثل الأرض، فيها خلق، يحيون حياتهم كما أرادها الله لهم، فكان علمه بهم كعلمه بعباده الذين يقيمون في الأرض.
ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﮊ إبراهيم: ٣٩
يحمد إبراهيم 5 ربه على أن وهبه ولدين صالحين: إسماعيل وإسحاق، ولم يكن حمده ربه فقط على مجرد الهبة، إذ رافق نعمة الولد نعمة أخرى، تجلت في قوله { على الكبر }، والتي تشير إلى أنه 5 بلغ من الكبر حداً قد يجيز له اليأس من قدوم الولد، فكان في قدوم الولد في مثل هذه السن نعمة أخرى، تتجلى في تدخل القدرة الإلهية، مخترقة الناموس البشري، لتكون نعمة الولد في ظل ذلك نعمة مضاعفة.
ويجب أن لا يُفهم أن إسماعيل وإسحاق عليهما السلام وُلدا في زمنين متقاربين، وفي ظل حالة واحدة، لأن الأحداث في كلمات الله تعالى تنعدم فيها الفواصل الزمنية، فيُعطف بعضها على بعض وكأنهما حدثا في وقت واحد.
قال ابن عباس: وُلد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين، وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي سنة[140]
ﮋ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ إبراهيم: ٤٠
إشارة أخرى إلى ما للصلاة من قدرٍ عظيم، إذ خصها بالذكر من بين سائر العبادات فهو 5 يدعو ربه أن ييسره لإقامة الصلاة شكلاً ومضموناً، وأشرك ذريته في هذا الفضل، فقال { ومن ذريتي }، وذكر { من } قبل ذريته لإفادة التبعيض، بمعنى أنه كان يعلم أن ذريته لن تكون بأجمعها على الإيمان، بل سيكون فيها من هو ظالم لنفسه مبين.
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﮊ
لو اكتفى إبراهيم 5 بأدعيته السابقة، لكان حرياً بالله سبحانه وتعالى أن يستجيب لدعاء خليله، ولكنه 5 قال إثر ذلك { ربنا وتقبل دعائي }، يدعو ربه أن يجيب، وفي ذلك تأكيد على تلك الأدعية التي دعا بها، وإشارة إلى حرضه البالغ على مضامينها، هذا إن جعلنا كلمة { دعاء } مقصورة على ما ورد في هذه الآيات، أما إذا نظرنا إليها من منظور آخر فهي دالة على كل دعاء دعا به خليل الرحمن ربه
ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ إبراهيم: ٤١
إن الإنسان على هذه الأرض وبالذات الإنسان المؤمن، لن يسلم أبداً بأنه استوفى كل بالله من حق عليه، مهما بلغ من درجات الإيمان والتقوى.
وهذا هو حال أبينا إبراهيم 5، الذي اتخذه الله خليلاً، وجعله نبياً ورسولاً وصديقاً، كان يرى أنه لا غنى له عن أن يتغمده الله بالمغفرة لإيانه بأن الغيب قد يكون فيه ما يخشاه .
ﮋ ﯰ ﮊ كَثُر القول في طلب إبراهيم 5المغفرة لوالديه، وكأنه لا يحق له أن يطلب ذلك لهما، استناداً إلى قوله تعالى:
ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ
فهل يجوز للإنسان أن يتنكر لوالديه ؟
قال تعالى:
ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮊ لقمان: ١٥
فإذا أراداك على أن تشرك بالله تعالى فلا تطعمها، وعدم طاعتك لهما لا يعني أن لا تعاملها بالمعروف، بل يجب عليك أن تعاملها بالمعروف، وهذا الوجوب يترجمه مجيء الفعل { صاحب } في صيغة الأمر. فما هو المعروف الذي قدّمه إبراهيم 5 لأبويه ؟
إنه طلب المغفرة لهما، قال تعالى على لسان خليله وهو يخاطب أباه بعد أن أصرّ على كفره:
ﮋ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ مريم: ٤٧
فأراد لأبيه السلام، ووعده بالاستغفار، ونفذ وعده، حتى جاءه النهي عن ذلك من رب العالمين. ولكنه نهي يجعل الأمر بيد الله إن شاء غفر، وقد رأينا في الحديث الذي رواه البخاري عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو بصدد الأخبار عن موقف إبراهيم 5 وأبيه آزر يوم القيامة، وكيف أنه سأل ربه أن لا يحزنه بإلقاء أبيه في النار
ﮋ ﯱ ﮊ الألف واللام في { المؤمنين } للجنس، بذلك اشتملت هذه الكلمة على جنس المؤمنين جميعاً إلى يوم القيامة، الذين كانوا في عهده وفي العهود اللاحقة
ﮋ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ
قيل في تأويلها: يوم يقوم الناس للحساب.
وليس هذا هو المراد، بل المراد قيام الحساب، فكيف يقوم الحساب ؟
إن قيام الشيء يعني استواءه، واكتمال هيئته وحالاته، وكذلك الحساب يوم القيامة، قيامه هو اكتمال الأحوال التي تستدعي وقوعه من بعثٍ وحشرٍ وصراط وميزان وغير ذلك .
- ﮋ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﮊ
ﮋ ﰆ ﮊ قيل في تأويلها:
معرفة بك وبحدودك وأحكامك.
نبوة ورسالة إلى الخلق[141]
وكل منهما كان حاصلاً لديه 5، فكان نبياً رسولاً، وكان بذلك أكثر الناس معرفة بالله تعالى وبشرعه، ولذلك فإن سؤاله { الحكيم } يشير إلى آخر، وهو ما يحمله معنى { الحكم } من قدرة على القضاء في الأمور، وعدم خروجها عن حكمه.
فالحكم الذي وهبه جل شأنه لإبراهيم 5، استجابة لدعائه، يتضح من خلال المسارات العديدة التي جرت على يديه، فجعلها الله تعالى قدراً لازماً للأمم من بعده إلى بعده إلى يوم القيامة.
ﮋ ﰇ ﰈ ﮊ
لا يكون المرء صالحاً يوم القيامة إلا إذا كان صالحاً في الدنيا، فكان طلبه 5 أن يُلحق بالصالحين متضمناً اللحاق بهم في الدنيا والآخرة، أي أن يكون منهم في الدنيا والآخرة.
والصالحون في هذا الموضع لا تشتمل عموم الأنبياء، بل تنساق إلى أولى العزم من الرسل، لأن كلمة { الصالحون } في القرآن الكريم تندرج في مسارات متعددة، والذي يحدد كل مسار السياق الذي ترد فيه، قال تعالى:
ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ النساء: ٦٩
أفكان إبراهيم 5 يريد أن يُلْحَقَ بالفريق الرابع، تاركاً الفريق الأول ؟ لقد قال تعالى { بالبنين } وذلك يعني أن الأنبياء جميعاً يوم القيامة فريق واحد وعلى رأسهم إبراهيم 5 وولده محمد صلى الله عليه وسلم وأما الفريق الرابع فإنهم الصالحون من سوى الفرق الثلاثة المذكورة قبلهم. أي من عموم المؤمنين بالله تعالى.
وأما الصالحون الذين ذكرهم إبراهيم 5 فإنهم الصالحون من الأنبياء، والذين أشرنا إلى أنهم أولو العزم من الرسل.
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﮊ الشعراء: ٨٤
اختلف في تأويل ذلك:
فقيل: هو اجتماع الأمم عليه، كل منها تدعيه لنفسها.
وقيل: هو الثناء الحسن.
وقيل: هو سؤاله أن يكون في ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل ك الدعاء الحسن، وقد فعل الله ذلك، إذ ليس أحدٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وهو يصلي على إبراهيم، وخاصة في الصلوات[142]
ولنا في ذلك رؤية:
ﮋ ﭑ ﮊ فعل من الأفعال الدالة على التحويل من وضع إلى آخر، قال تعالى على لسان موسى 5:
ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﮊ طه: ٢٩
فكانت دلالة { جعل } أن يكون هناك تقول في ذات الشيء من وجهٍ إلى آخر، فكان موسى 5 لا يملك مُعينا له في دعوته، ليطمئن إليه، فجعله الله تعالى في وضح آخر، بأن أَشرك أخاه هارون معه في الرسالة.
وكذلك ذلك إبراهيم 5، لم يكن له لسان يكلم به الأمم اللاحقة مثلما كان يكلم من كانوا في زمنه، فسأل الله تعالى أن يجعل له لساناً يخاطب به الآخرين، فكان لسانه فيهم هو ما بقى من كلماته ومن أثره الذي يخبر عنه.
ولكنه 5 لم يكتف بأن يكون له ذكر في الآخرين، لأن ذلك قد يتحقق صدقاً أو كذباً وتزويراً، فسأل الله أن يكون ذلك اللسان لسان صدق، أي ذِكْراً صادقاً لا تزوير فيه و لا تحريف، وهذه الرؤية تستدعي أن يكون ما ورد في كتاب اليهود عن إبراهيم 5كلاماً صادقاً...
ﮋ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﮊ
الورثة: جمع وارث، وهو الذي ينال خيراً، تركه صاحبه، كالولد يرث أباه. فكيف يكون المؤمنون هم ورثة جنة النعيم؟ هل كان فيها أحد من قبلهم فتركها لهم، ليكونوا هم الوارثين ؟
قال تعالى على لسان عباده المؤمنين يوم القيامة:
ﮋ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﮊ الزمر: ٧٤ – ٧٥
فيرث عباد الله المؤمنون الأرض وما عليها، بعد أن ينصرف عنها إلى جهنم من كان كافراً . ولكنها لا تبقى على حالتها التي كانت عليها في الحياة الدنيا، بل يجعلها الله تعالى في حلة جديدة، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﮊ الشعراء: ٨٦
يطلب 5 من ربه أن يغفر لأبيه، فكيف لمن وصفه الله تعالى بقوله:
ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ هود: ٧٥
كيف أن يهنأ وهو يرى أباه يساق إلى النار ؟
وقد وجد المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك سبباً يدعوهم للاستغفار لمن مات من أهليهم وهو كافر، وأولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال بعد وفاه عمه أبي طالب:
{ أما والله لأستغفرن لك ربي مالم أُنه عنك } رواه مسلم والنسائي وأحمد
منزل قوله تعالى
ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ التوبة: ١١٣ – ١١٤
قيل في تفسير القرطبي:
كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أنْ يؤمن بالله، ويخلع الأفراد، فلما مات على الكفر علم أنه عدو لله، فترك الدعاء له[143]
ولكن أبا إبراهيم لم يكن من وعد، بدليل ماورد في كتاب الله تعالى :
ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ مريم: ٤٦
فهو لم يعد ولده بأن يؤمن، بل توعده بالعذاب إن لم يكف عن دعوته.
وأما ما لوعد، فقد كان من إبراهيم 5، الذي ردّ عليه في نفس الموقف المذكور قبل قليل:
ﮋ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ مريم: ٤٧
ولكنه عند ما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه، وترك الاستغفار له، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة، فإن لإبراهيم 5شأناً آخر مع أبيه، نجده في قوله تعالى على لسان خليله :
ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ الشعراء: ٨٧
إن مجيء هذا الدعاء بعد استغفار إبراهيم لأبيه، يشير إلى أن عدم المغفرة لأبيه سيكون سبباً لخزيه يوم القيامة، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم:
{ يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قتره وغبره، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخرى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى: إني حرَّمت الجنة على الكافرين. ثم يُقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر، فإذا هو بذبح ملتطخ، فيؤخذ بقوامه، فيلقى في النار }
وقد أشرنا سابقاً إلى أن النهي عن الاستغفار للمشركين جاء من خلال المسارين:
ذكر جل شأنه عموم المشركين الذين يستغفر لهم المؤمنون بقوله { أصحاب الجحيم } ، وهذا يعني أنه لا مفر لهم من مكابدة عذاب النار.
وذُكر أبو إبراهيم بقوله { عدوّ لله } بدون أن تُلصق به صفة صاحب الجحيم، وفي ذلك إشارة إلى أنه قد يُغفر له يوم القيامة، لأن الله تعالى يغفر لمن يشاء يعذب من يشاء. فلو كان الجحيم له مصيراً، لكان ذكره في ذلك الإطار، ولكنه ذكره بصفة العداوة ذكره بصفة العداوة لله، وقد يغفر الله لمن كان له عدواً، إذا أراد.
ﮋ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ
ﮋ ﭪ ﮊ بدل من { يوم } الأولى، ففي يوم البعث لا ينفع الإنسان مال ولا ولد، الشيء الوحيد الذي ينفعه هو القلب السليم العامر بالإيمان وتقوى الله.
ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﮊ
القلب السليم: هو القلب العامر بالإيمان والتقوى، قال صلى الله عليه وسلم:
{ إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت مسد الجسد كله ألا وهي القلب } رواه مسلم وابن ماجه والدارمي.
وقد وصف جل شأنه خليله إبراهيم 5 بسلامة القلب فقال:
ﮋ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ الصافات: ٨٤
وليس فوق سلامة قلوب الأنبياء سلامة.
وبالنظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق تبين لنا أن القلب إذا توفر على الصلاح والسلامة، فإن ذلك ينساق إلى جميع الجسد، بمعنى أن صاحب القلب السليم ينفر من الشرور، والآثام، ويهنأ بفعل الخيرات بدون أن يكون ذلك الفعل هو مناط الفوز يوم القيامة لوحده، لأن القلب السليم هو الأصل، والأساس العظيم الذي تقوم عليه كل تلك الأعمال.
ولم يُذكر المفعول به للفعل { ينفع } عمداً، إذ لو كان المراد بالمنفعة فقط صاحب القلب لذكره جل شأنه، ولكنه عدل عن ذكره لتنساق المنفعة إليه وإلى سواه، ومما يشير إلى ذلك في التشريع الإسلامي :
أعلى القلوب سلامة قلب صلى الله عليه وسلم ، الذي لن تقتصر منفعته على شخصه الجليل، بل ستنساق غلى أعداد عظيمة من المسلمين وسواهم ومما يشير إلى ذلك:
حديث الشفاعة يوم القيامة، وهي شفاعتان
عامة، وتكون للخلق جميعاً حيث يخرجهم من عذاب الحشر
خاصة، وتكون للمؤمنين من أصحاب الكبائر.
{ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي } رواه أبو داود وأحمد
وقوله صلى الله عليه وسلم عندما نزل قوله تعالى
ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮊ الضحى: ٥
إذ قال: { والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار }
والشهيد الذي قاده قلبه السليم إلى أن يضحى بنفسه في سبيل الله تعالى، يشفعه الله في سبعين من أهله كلهم وجبت لهم النار. كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داوود.
قوله رب العالمين للمؤمنين الذي دخلوا بسبب قلوبهم السليمة:
{ أخرجوا من عرفتهم } أي من النار. رواه مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﮊالبقرة: ٢٦٠
أدرجت هذه الكلمات في أدعية إبراهيم 5، لأنها تتضمن الدعاء بتحقيق أمر، من شأنه أن يحقق لقلبه حالة الاطمئنان .
اختلف الناس في سؤال إبراهيم { كيف يحي الموتى } هل صدر عن شك أم لا ؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم 5 شاكاً في إحياء الله الموتى قط، إنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أُخْبرت به[144]
من الثابت في طبائع البشر أن الإنسان إذ مّر على عظيم من العظماء فإنه لن يجد في نفسه الجرأة على تجاوز ما هو مفروض عليه عن أصول في الخطاب والمعاملة. فإذا أصبح هذا الإنسان خليلاً لذلك العظيم، فإنه سيتجاوز العديد من حواجز الكلفة التي كانت في البداية.
وهاهو إبراهيم5 يجرؤ على سؤال ربه سؤالاً يمتد إلى عمق القدرة الإلهية، ولم لا ؟ فقد كان خليلاً يسأل خليله، فهل بين الخليل وخليله كُلْفة أو تردّد ؟
لم يكن لدى إبراهيم 5 أدنى شك في أن الإماتة والإحياء بيد الله تعالى، وقد ورد عنه قوله للذي حاج إبراهيم في ربه:
ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ البقرة: ٢٥٨
ولكنه، 5، أراد أن يشهد ذلك بعيني رأسه، بعد أن شهده بقلبه. وفيما يلي متابعة لمحاور الدلالة في الآية.
ﮋ ﭛ ﭜﮊ
يأتي الاستفهام مثبتاً، وقد يأتي منفياً، فإذا جاء مثبتاً كان الجواب في الإثبات بـ {نعم}، وأما إذا كان السؤال منفياً من خلال استخدام أداة من أدوات النفي مع أداة الاستفهام كقوله تعالى لإبراهيم 5 { أولم تؤمن } كان الجواب في الإيجاب بـ{ بلى } وفي النفي بـ{ لا }.
ثم إن السؤال المنفي يطرح دلالة، مؤداها أن المسئول قد حقق المسئول عنه، فكان في سؤال رب العالمين إشارة إلى أن إبراهيم 5 كان مؤمناً بحقيقة قدرته تعالى على إحياء الموتى، وكأن رب العالمين يقول له: لقد أعلنت ياإبراهيم أنك آمنت بأنني أحيي وأميت، فلماذا تسأل هذا السؤال ؟
فلماذا يسأل الله تعالى هذا السؤال، وهو يعلم أحوال إبراهيم 5 قبل خلقه، بل وقبل خلق أبينا آدم ؟
إن السؤال منه، سبحانه، ليس بسؤال من لا يعلم، فهو علام الغيوب ، إنما كان سؤاله لأمرين:
أن سؤال إبراهيم { ...كيف تحيي الموتى } يحتمل معنيين:
الأول: أنه غير مؤمن، فطلب أن يرى هذه الآية، لتحقق له الإيمان.
الثاني: أنه مؤمن، ولكنه يريد أن يصل إلى المزيد من اليقين من خلال المعاينة المباشرة.
ولكن الله تعالى يعلم مافي قلب إبراهيم، ومع ذلك سأله ذلك السؤال، وشاهداً لإبراهيم أمام الله وأمام الناس، على أن ذلك السؤال كان من أجل الاطمئنان لا من أجل الإيمان.
أو أن التغاضي عن هيئة السؤال، ومواجهته بسؤال آخر، كان إشارة منه سبحانه إلى مقام الخلّة، الذي أنعم به جل شأنه على إبراهيم، فكان من تداعياته أن الله تعالى خاطبه خطاب الخليل إلى خليله، لا خطاب السيد إلى عبده
ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﮊ
الطمأنينة اعتدال وسكون، فطمأنينة القلب هي أن يسكن فكرة في الشيء المعتقد. والقلب هو العقل، وطمأنينته هي أن يعقل من الشواهد الحسية ما يؤيد الفكرة الغيبية
لقد كان إبراهيم 5مؤمناً بأن الله يحي ويميت، ولكن إيمانه 5لم يعتمد على كل المجالات المدركة للإنسان، أي أن إيمانه بتلك الفكرة كان إيماناً قلبياً. ومن شأن الإطلاع الحسي على تلك الحقائق الغيبية أن يرفع من درجة الإيمان في القلب، ليصل إلى درجة الاطمئنان. وقد ذكرنا قبل قليل أن طمأنينة القلب هي أن يسكن فكرة في الشيء المعتقد، وليس للفكرة أن تستقر استقرار نهائياً إلا إذا تجلت من خلال المحورين اللذين يملكهما الإنسان العقل والحس.
فما غايته 5 من السعي إلى حالة الاطمئنان ؟
إن الخليل لا يكون خليلاً إلا إذا وجد في وجدانه طمأنينة أثناء التقائه بخليل . وهاهو إبراهيم 5 قد غدا خليلاً لله، فأراد أن يرفع من قدر مساحة الالتقاء الإدراكي بربه، فطلب الرؤية الحسية لمظهر من مظاهر القدرة الإلهية، فوق ما كان متوفراً لديه من مساحة التلبية.
ﮋ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ
لم يعلق جل شأنه على الغاية التي ذكرها إبراهيم 5، وفي ذلك إشارة إلى أن طلب الاطمئنان أمر مشروع، فأمر الله تعالى خليله بأن يأخذ أربعة من الطير:
وقيل: هي الديك والطاووس والكر كي والنسر[145]
ولم يختر جل شأنه أربعة من الطير إلا لحكمة، وإلا فلم لم يجعلها ثلاثة أو خمسة أو أكثر ؟ علم ذلك عند الله تعالى، إن شاء أطلع عليه عباده، وإلا احتفظ به في مكنون علمه.
ﮋ ﭩ ﭪ ﮊ
معناه: قطعهن. وقيل: أَمْلِهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك فعلى تأويل القطع تكون { إليك } متعلقة بـ{ خذ } أي. خذ إليك أربعة من الطير فصرهن . وعلى تأويل الإمالة تكون { إليك } متعلقة بـ{ صرهن } وفي الكلام متروك، أي: فأملهن إليك ثم قطعهن[146]
وفي تأويل القطع تكلف، وبعد عن جلال تركيب الجملة القرآنية، لأنه يجعل { إليك } متعلقة بـ { خذ } مع وجود فاصل بينهما، وهو قوله { أربعة من الطير فصرهن } في ظل عدم وجود مبرر لهذا الانفصال، وإلا فلم لم يقل: فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن ؟
ولهذا السبب نجد أن النسفي في تفسيره قد اعتمد معنى الإمالة لـ{ صرهن }، فقال:
أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها، ليتأملها، ويعرف أشكالها وهيئاتها وصفاتها، لئلا تلتبس عليه بعد إلا حياء، ولا يتوهم أنها غير ذلك[147]
فإذا كان الغرض من الإمالة ما ذكره النسفي، فإن جعل الطيور من أصناف مختلفة لا معنى له، لأن الطيور، حال كونها من أجناس مختلفة، لا تحتاج إلى إمعان نظر من أجل التعرف على الصفات التي تميز كل طائر عن أخيه، فنظرة عابرة، من بعيد، كافية للتعرف على صفات كلٍّ منها
ومن أجل هذه الحقيقة ورد لدى أصحاب مايلي:
أُمر إبراهيم 5 بأن يذبحها، وينتف ريشها، ويقطعها، ويفرق أجزاءها، ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثم أًمِرَ أن يجعل أجزاءها على الجبال، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائر، ثم يصيح بهن: تعالين بإذن الله. وجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت حثيثاً، ثم أقبلن، فانضممن إلى رؤوسهن، كل جثةٍ إلى رأسها[148]
فقد جُعلت تلك الرؤوس دليلاً قاطعاً على أن تلك الطيور المقبلة عليه هي ذاتها التي ذبحها وقطعها قبل قليل، وأبقى الرؤوس لديه، حتى لا يلحقه شك، فيظن أن تلك الطيور المقبلة غير تلك التي ذبحها بيديه.
وفي هذه الحالة لا معنى لأن تكون الإمالة لغرض التعرف على الطيور. لأن الالتباس في شأنها أمر منعدم إذا كانت كما قيل ديكاً وطاووساً وحماماً وغراباً.
ومع ذلك فإن التأويل { فصرهن } بمعنى الإمالة من أجل التعرف والتحقق من هيئات الطيور، قد يستقيم إذا جعلت الطيور الأربعة من جنس واحد، لأنها إن كانت كذلك، كان للإمالة من أجل التعرف معنى، لأنها متشابهة في المظهر العام، ومن شأن التدقيق فيها أن علامة مميزة يتميز به كل طائر عن الثلاثة الآخرين. ويزداد هذا الاقتراح قوة إذا مانظرنا إلى قول أصحاب النظر:
{ وكأن إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقى كل طائر رأسه }[149]
وهذا القول يستدعي أن إبراهيم 5 كان يعبق مع هذه الآية العظيمة، فإذا رأى الديك أشار الآية برأس الطاووس...وهكذا. أفلا يعرف إبراهيم 5 رأس الطاووس من الديك من الغراب من الحمامة ؟
ولذلك فإن الإشارة بالرأس الخطأ لا تستقيم نسبتها إلى إبراهيم 5 إلا إذا كانت الطيور من جنس واحد، يصلح الرأس الواحد أن يكون رأساً لأيٍ منها.
ﭽ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭼ البقرة: ٢٦٠
أخذ إبراهيم 5 هذه الطير حسب ما أمر، وذكاها، ثم قطعها صغاراً، وخلط لحوم البعض إلى لحوم مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل .
ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭼ البقرة: ٢٦٠
أي قال { تعالين بإذن الله } فتطايرت تلك الأجزاء، وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش، حتى التأمت مثلما كانت أولاً، وبقيت بلا رؤوس، ثم كرّر النداء، فجاءته سعياً، أي عدواً على أرجلهن[150]
وفي هذا المسار نلاحظ ما يلي:
جعل الله تعالى عودة الطير إلى الحياة مرهونة بكلمةٍ منه 5، ويذكرنا ذلك بما كان من عيسى 5:
ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ المائدة: ١١٠
فليس لمخلوق أن يأتي بأمر خارج عن نطاق القدرات الطبيعية للإنسان إلا بإذن من الله تعالى. فكان الإذن من الله تعالى للطيور المقطعة بأن تستجيب لدعاء إبراهيم 5.
ولم تكن عودة الطير إلى الحياة بيد إبراهيم، لأن جميع مالدى الإنسان من فعاليات إنما هي من قدرة الله تعالى، فأذن جل شأنه لإبراهيم أن يمارس هذه الفعاليات كرامة له، وتبياناً لأن الإنسان تكمن فيه هذه القدرة، ولكنها لا تنشط إلا بإذن منه سبحانه .
ومع استجابة الله تعالى لدعاء خليله، فإن هذا الخليل 5 لم ير هيئة إعادة الطير الميت إلى الحياة، ولكنه كان يملك من الشواهد والأدلة ما يجعله على يقين بأن ذلك الطائر المقبل عليه هو ذاته الذي ذبحه وقطعه بيديه قبل قليل.
أما إعادة تجميع هذه الطيور. فقد نظر إليها المفسرون من خلال ما يعلمونه من هيئة لاجتماع الذات المقطعة أو المحطمة. فقد وضعت أجواء الطير في أماكن متفرقة، فإذا رأيته يعود إليك في ذاته الأولى، فذلك يعني أن الأجواء المكونة للذات انطلقت من أماكنها إلى بعضها البعض ليتم تركيب الذات من جديد.
وفي ظل التقدم العلمي علمنا أن الكائن الحي بكل أجزائه يتكون من مجموعة هائلة من الخلايا الحية. وأن كل خلية من هذه الخلايا تمارس نشاطاً تنظيمياً بالغ الدقة، وكأنها تعلم ما تفعل. فإذا كانت تملك هذه القدرة الإدراكية العالية. ألا تكون مؤهلة لإدراك أمر الله تعالى لها بالتوجه إلى المكان الذي كانت فيه من قبل في جسم الطائر ؟
ﮋ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ البقرة: ٢٦٠
ﮋ ﭺ ﮊ لا يمتنع عليه ما يريده.
ﮋ ﭻ ﮊ فيما يدبر، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة[151]
ومناسبة هذا الاسم لما ورد في شأن إبراهيم 5، هو أن الله يفعل ما يشاء مما لا يستطيع الإنسان أن يشهد له إمكانية في عالم القانون المادي. وهو جل شأنه، إذ يفعل ذلك، يفعله في إطار الحكمة البالغة.
أي أن عزته سبحانه تتحقق من خلال أفضل السبل والوسائل، القائمة على قوانين ثابتة، أنشأها العدل الإلهي وجلال قدرته سبحانه.
تفسير القرطبي الجزء الثاني ص96 1
2 قصص الأنبياء: لابن كثير ص101
1 تفسير القرطبي : الجزء السابع ص 22
1 تفسير النسفي: الجزء الثاني ص99
1 تفسير النسفي: الجزء الثاني ص 30
1 تفسير القرطبي: الجزء السابع ص27
[8]تفسير القرطبي: الجزء السابع ص 30
تفسير النسفي: الجزء الثالث ص60 [9]
[10]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 22
[11]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص 126
[12]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص 127
[13]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص 127
[14]كوثى: من أرض بابل، و بها مشهد الخليل عليه السلام ، و بها مولده، وطرحه في النار
[15]تفسير النسفي : الجزء الثالث، ص 128-127
[16]تفسير النسفي: الجزء الثالث 127
[17]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 128
[18]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 128
[19]الوزغ: سام أبو برص، سُمِّي بذلك لخفّته وسرعة حركته
[20]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص128
[21]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 274
[22]لسان العرب – ابن منظور المجلد السادس ص877
[23]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 366
[24]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 366
[25]ابن إسحاق في السيرة
[26]تفسير النسفي: ج3 ، 368
[27]تفسير ابن كثير : الجزء الثالث ص 395
[28]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص 369
[29]تفسير القرطبي: الجزء الخامس عشر ص92
[30]تفسر النسفي : الجزء الرابع ص38
[31]تفسير النسفي: الجزء الرابع ص38
[32]تفسير القرطبي : الجزء الحادي عشر، ص305
[33] تفسير القرطبي: الجزء الحادي عشر ص 305
[34]ذهب : جاءت هنا بمعنى أراد
[35]أُخِذ : قيد الله حركته، فلم يقدر على الوصول إليها
[36]أُرْسل : أي أطلقه الله، فعاد قادراً على الحركة
[37]أسْلَم: قبيلة من القبائل العربية
[38]ينتضلون : يتبارون في رمي السهام
[39]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص129
[40]المنطق: كمنبر النطاق لما يُشَدُّ به الوسط
[41]تعفى : تمحو وتزيل
[42]يتلبّط : يضطرب
[43] درعها: ثوبها
[44]غواث: أي ما تنجدنا به
[45]بحث: بحث في الأرض حفرها
[46]معيناً : أي عين ماء جارٍ يصل إليه من أراده
[47]جُرْهم: حيٌّ يماني من العرب البائدة
[48]عائفاً: العيافة: التكهن بالطير وغيره
[49]جرياً : رسولاًُ يتفقد لهم الأمر
[50] ضد الوحشة، أي تحبّ الاختلاط ع الناس
[51]أنفسهم: أي نافسهم في العلم بالعربية
[52]هو ذاك الذي يظهر فيه أثر قدميه 5
[53]عكني: جمع عكنة، وهي ما انظوى وتثنى من لحم البطن سِمَناً.
[54]سخفة الجوع: رقته وهزاله
[55]تضلّع: أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه وأضلاعه
[56]تفسير القرطبي: الجزء التاسع،ص370
[57] تفسير النسفي : الجزء الثالث ص150
[58]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص150
[59]النسفي: ج3 ص 150
[60]القرطبي :ج12 ص37
[61]تفسير القرطبي: الجزء الثاني عشر ص38
[62]تفسير القرطبي : الجزء الثاني عشر ص39
[63]تفسير النسفي : الجزء الأول ص157
[64]الجارح : الطيور الجارحة
[65]تفسير القرطبي: الجزء الرابع ص139
[66]تفسير القرطبي: الجزء الرابع ص142
[67]تفسير القرطبي: ج 2 ، ص 97 ، 98
[68]اتفق رواه { مسلم } على تخفيف { القدوم } ، وقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه، قالوا: وآله النجار يقال لها: قدوم بالتخفيف لاغير، وأما القدوم فمكان بالشام، يخفف ويشدد. فمن رواه بالتشديد أراد القربة ورواية التخفيف تحتمل القرية والآلة ، والأكثرون على التخفيف وعلى إرادة الآلة.
[69]القرطبي : ج 15 ، ص 102
[70]تفسير النسفي: الجزء الأول ص90
[71]يطأ في سواد ويبرك وينظر في سواد: إشارة إلى أنّه كبش عظيم الهيئة
[72]استشرقوا : أي أحرصوا على خلوها من العيوب.
[73]القرطبي ج 15، ص111
[74]القرطبي : ج15، ص113
[75]تفسير النسفي : الجزء الرابع ص41
[76]أساليب العطف في القرآن الكريم: مصطفى حميده ص 93، 94
[77]المِنطق: كَمِنْبر النِّطاق لما يُشَدُّ به الوسط .
[78]تعفي: تمحو وتزيل.
[79]يتلبط : يضطرب
[80]درعها : ثوبها
[81]غواث: أي ما تنجدنا به
[82]معيناً: أي عين ماء جارٍ يصل إليه من أراده.
[83]جريّاً : رسولاً يتفقد لهم الأمر
[84]عائفاً: العيافة: التكهن بالطير وغيره
[85]جرياً: رسولاً يتفقد لهم الأمر
[86]الأنس: ضد الوحشة ، أي تحب الاختلاط مع الناس
[87]أنفسهم: أي نافسهم في العلم بالعربية.
[88]الحجر: هو ذاك الذي يظهر أثر قدميه 5
[89]عكني: جمع عكنة، وهي ما انطوى وتثنى من لحم البطن سِمَناً
[90]سخفة الجوع : رقته وهزالة
[91]تضلع : أكثر من الشرب، حتى تمدد جنبه وأضلاعه
[92]تفسير القرطبي : الجزء التاسع ص 370
[93]تفسير النسفي: الجزء الثالث ص 150
[94]تفسير النسفي : الجزء الثالث ص 150
[95]تفسير القرطبي : الجزء الثاني عشر ص 38
[96]تفسر القرطبي : الجزء الثاني عشر ص 39
[97]تفسير النسفي : الجزء الأول ص 157
[98]الجارح : الطيور الجارحة
[99]تفسير القرطبي: الجزء الرابع ص139
[100]تفسير القرطبي : الجزء الرابع ص142
[101]تفسير القرطبي : الجزء الرابع ص153- 154
[102]تفسير القرطبي: ج2، ص 97، 98
[103]أتفق رواه { مسلم } على التخفيف { القدوم } ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه، فقالوا: وآلة النجار يقال لها: قدوم بالتخفيف لا غير، وأما القدوم فمكان بالشام، يخفف ويشدد. فمن رواه بالتشديد أراد القرية ، ورواية التخفيف تحتمل القربة وآلآله، الأكثرون على التخفيف وعلى إرادة الآلة
[104]تفسير القرطبي: الجزء الخامس ص399
[105]تفسير القرطبي: الجزء العاشر ص 197
[106]تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص 140
[107]تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص140
[108]لسان العرب: ابن منظور، المجلد الأول
[109]تفسير القرطبي: الجزء العاشر ص 198
[110]تفسير القرطبي: الجزء العاشر ص198
[111]تفسير القرطبي : الجزء الثامن ص 275، 276
[112]تفسير القرطبي: الجزء الخامس عشر ص 217
[113]الزمني: المرضى ذوو العاهات
[114]تفسير النسفي: الجزء الرابع ص 66
[115]القرطبي: الجزء التاسع ص 62
[116]القرطبي: الجزء التاسع ص62
[117]تفسير القرطبي: الجزء التاسع ص 68
1- تفسير القرطبي: الجزء التاسع ص 72
القرطبي: ج 9 ، ص 83
[120]تفسير القرطبي: الجزء العاشر ص35
1تفسير القرطبي : ج 17، ص 45
1-تفسير القرطبي: الجزء السابع عشر ص 47
2تفسير القرطبي : الجزء السابع عشر ص 47
1تفسير النسفي: الجزء الأول ص 245
1تفسير القرطبي: الجزء الرابع عشر ص 1
[126]أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة لندن، وقد كتب وأبحاث حول العهد القديم ، وهو أحد المحررين لكتاب تراث الإسلام
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص 132
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص133
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني: ص135
1السابق: نفس الموقع
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص47
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص 118
1تفسير القرطبي: ج13، ص 300
1تفسير النسفي: الجزء الأول ص 125
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص 122
1تفسير القرطبي: الجزء الثاني ص 130
1تفسير القرطبي: الجزء العشرون ص 96
1تفسير القرطبي: الجزء التاسع ص 373
1تفسير القرطبي: الجزء التاسع، ص 375
1تفسير القرطبي: الجزء الثالث عشر ص 112
1تفسير القرطبي: ج 13 ص 113
1تفسير القرطبي: الجزء الثامن ص 274
1تفسير القرطبي: الجزء الثالث ص 297
1تفسير القرطبي: الجزء الثالث ص 301
2تفسير القرطبي: الجزء الثالث ص 301
3تفسير النسفي: الجزء الأول ص 203
4تفسير النسفي: الجزء الأول 203
السابق [149]
[150]السابق
1تفسير النسفي: الجزء الأول: ص 204
=============
=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرد على أصول الرافضة جمع وإعداد علي بن نايف الشحود

  الرد على أصول الرافضة جمع وإعداد علي بن نايف الشحود  بسم الله الرحمن الرحيم  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء ...